هكذا انتصرنا.. هكذا هزمنا الأعداء

حسين خليفة: 

مع كل كارثة جديدة_ وتاريخ هذه البلاد سلسلة كوارث_ سرعان ما نعثر على جهة نرمي عليها أسباب الكارثة ونريح أنفسنا من عناء الوقوف أمام المرآة ومحاسبة أنفسنا عمّا فعلناه أو عمّا لم نفعله، وكان يجب أن نفعله، حتى نتفادى الكارثة أو نتغلّب عليها.

نحن شعوب تعودت على التفكير الغيبي، ونرفض رفضاً قاطعاً التفكير العلمي حتى ممّن يتشدّق منّا بالعبارات والعناوين العلمية والتقدمية والثورية.

إنه إرث ثقيل من سطوة الجهل والتواكل والموت من أجل الماضي تاركين الحاضر والمستقبل لصدف التاريخ ـ وهي مؤلمة غالباً ـ أو للآخرين كي يصوغوه بما يضمن مصالحهم على حساب شعوبنا ومقدراتهم.

على المستويين الفردي والجمعي نجد هذه الروح المتأصّلة فينا، الراسخة رسوخ الجبال، تطلّ برأسها كلما تعثرنا في محطة من محطات العمر، أو كلما تعرضنا لنكسة أو نكبة أو هزيمة أو تراجع.

هناك قصة قصيرة ومعبّرة للكاتب السوري المبدع د. ممدوح حماده صاحب أجمل الأعمال الدرامية الكوميدية التي قُدّمت على الشاشات، والقاص وفنان الكاريكاتير والناقد الفني، سأسمح لنفسي بإيراد القصة باختصار من الذاكرة: طالب كسول ومدلل اسمه بدر، رسب في امتحان اللغة العربية، وحين تلقى اللوم من أهله على هذه النتيجة قال بدر: والله الحقّ على ذلك المأفون الذي كان يجلس أمامي، فقد كنت بحاجة إلى (رأس خيط) لأتذكّر الإجابة عن السؤال، لكنه لم يقبل أن يفتح لي ورقته الامتحانية ممّا تسبّب برسوبي.

في العام التالي أيضاً رسب بدر، وكان الحقّ هذه المرة على الطالب الغبي الذي يجلس بجانبه، إذ امتنع عن تذكيره بإعراب جملة استعصى على ذاكرة بدر، وهكذا لم ينل علامة النجاح.
ومن عام إلى عام يرسب بدر ويحمّل سبب رسوبه للآخرين.

لم يقل بدر مرة إن تقصيره في المتابعة أثناء العام الدراسي أو في تحضيره للامتحانات أو لهوه أو إهماله هو السبب في رسوبه، وإنه سيبدأ من جديد.

هذه القصة الجميلة حقيقة (وقد تمنيت أن أعثر على نصٍّ كامل لها، لكن الأمر يحتاج إلى بحث طويل في أرشيف الأديب الكبير مع الاعتذار الكبير له على (التنكيل) بالقصة)، تختصر حياتنا وتاريخنا وسلطاتنا وأحزابنا وشعوبنا.

لنأخذ مثالاً واحداً على الطريقة (البدرية) في معالجة مشاكلنا:

فشلنا في التنمية فكانت الشمّاعة جاهزة: النهب والاستغلال الرأسمالي، ووجود عدو على الحدود نضطر لاستنزاف الموازنات للإعداد لمواجهته، في حين أن هناك الكثير من الدول التي كانت في قاع التخلف والفقر قفزت إلى واجهة العالم، وأصبحت يضرب بها المثل في النهوض السريع والتطور وتحقيق تنمية مستدامة، ولم تبحث عن حروب وفتوحات وأعداء.

هل نتحدث عن ماليزيا أم كوريا الجنوبية التي أعطت مثالاً على تحقيق الرفاهية والتنمية والتقدم الاقتصادي، عكس الرفاق في كوريا الشمالية الذين أغرقوا بلادهم في العسكرة وحروب طواحين الهواء والجوع والفقر والتعتيم؟!

أما عن وجود عدو محتل مغتصب على حدودنا فيكفي أن نشير إلى أن هذا العدو يحقق معدل نمو اقتصادي من أعلى معدلات النمو في العالم واقتصاده مستقر ويتفوّق علينا تقنياً وعلمياً وعسكرياً بالتالي، رغم أنه جزيرة صغيرة في محيط من الأعداء مهما حاولت الأنظمة التصالح معه، بينما غرقت جماهيرنا (الغفورة) في الجوع والفقر والصمت والخوف بحجّة الحرب مع هذا العدو، وبقينا في (جورة) تخلف مدقع، وفشلت جميع مشاريعنا التنموية و(الثورية) للسبب نفسه الذي تفوّق به عدونا: العلم والديمقراطية.

فشلنا في بناء منظومات سياسية مجتمعية مستقرة متآلفة، فشلنا في بناء دولة القانون والعدل، فشلنا في بناء مؤسسات عصرية للحكم والتشريع…الخ من جوانب الفشل، لكننا كُنّا دائماً نحمّل السبب في فشلنا المزمن للإمبريالية والصهيونية والمؤامرات التي تُحاك ضدّنا من جهات الأرض كلها، حتى بتنا نظنُّ أنّ العالم الأول والثاني وما بينهما لا عمل له ولا همّ ولا غمّ إلاّ الاجتماع في الغرف السرية، وحياكة المؤامرات على بلدنا الصاعد المتطور المنيع المقاوم الصامد.

بالتالي مهما خسرنا، مهما خرّبنا، مهما طمرَنا الفساد والنهب، مهما رجعنا إلى الوراء عقوداً أو قروناً، فيكفينا شرفاً أننا لم ننحنِ لهذه المؤامرات، وهزمنا الأحلاف والمشاريع التآمرية على مرِّ العصور.

نعم، نجحنا في الصمود في القاع، وهزمنا العالم، العالم كلّه.

العدد 1105 - 01/5/2024