بتنا أشبه بظمآن ظنّ أنه وجد بحيرة وسط الصحراء

وعد حسون نصر:

حياة السوري مشبعة بالألم، فكلما لاح أمامه خيط لامع ظنَّ أن الأمل يرافقه. المأساة خلفها مأساة، قهر مبهرج بشتى أنواع الذل، لدرجة أن خمس دقائق إضافية من التيار الكهربائي باتت تسعدنا، رسالة مفاجئة لاستلام مواد التموين (الزيت أو السكر أو الرز) باتت تخلق لنا ابتسامة طوال اليوم، حتى بتنا نطلق بعض الضحكات والتهريج على أنفسنا.. مثلاً أنا اليوم ملك زماني لا أحد يكلمني، فقد استلمت رسالة اسطوانة الغاز أو المازوت! حقيقة بتنا نحسد أنفسنا ويحسد بعضنا البعض الآخر على هذه الرسالة التي تخلق سعادة زائفة لنصف يوم مغمّس بذلّ سنوات، ولشدّة المحن بتنا نضحك على الألم ونجعل من كل محنة طرفة، حتى الكارثة الأخيرة صنع البعض من قسوتها طرفة ليسعد روحه المهزومة من نكبة التهجير الكارثية، غدونا نبحث عن الأمل في أسعار الخضار والفاكهة فيما إذا نزلت قيمة السعر بضع ليرات أم لا، بات فنجان القهوة مع صوت أغنية من الماضي يجعلنا نطلق تنهيدة ونقول ربما القادم أفضل.. فما رأيكم: هل سنعود كما كنّا أم لا؟ فلشدّة كسر خواطرنا بتنا كمن فقد حماراً يوم أمس ووجده في الغد الباكر! هنا يرقص فرحاً ويشكر الله لدرجة أنه لم يعد يطلب شيئاً من الدنيا إلاّ أن يبقى هذا الحمار أمامه! لقد تجسّدت أحلامه كلها في رؤيته هذا الحمار!

كم من مهاجر ترك الوطن على أمل حياة رغيدة كلّفته ألماً وحنيناً لسنوات سرق الزمن فيها من بين جدرانه صوراً ولمّة أهل وطفولة ومقاعد وألواناً وطباشير وثياباً يحكي الغبار عليها كم كنا فرحين ونحن نركض في شوارعه، وكم من مشرّد في شوارع الوطن نام على أمل أن يصحو في حضنه سالماً منعماً شامخاً، فهو على أرض الوطن حاملاً هويته، لكنه للأسف استيقظ ليجد أن أمله ليس سوى سراب، ضاع الوطن مع ضياع فردة الحذاء الممزق من شوارعه الوعرة، وضاعت الهوية مع دمغة مشرّد أو مكتوم أو مجهول نسب!

كم من طالب دخل قاعة الامتحان في الثانوية العامة وأمامه أمنيات وآمال وأحلام أن ينتهي بمعدّل يُدخله الفرع المرجو، فخاب أمله بعد قرار صادم من حكومة لا تزال تدرس كيفية إدارة الأزمات!

كم من أم جهّزت حقيبة السفر بيديها ودموعها تنهمر مثل لآلئ تعطّر ثياب المسافر، ورغم حسرة الفراق لكن الأمل بحياة رغيدة له أفضل من بقائه تائهاً وسط زحمة القهر في الوطن، لكنها تصحو على خبر منعه من السفر! ربما تشابه أسماء أو تقرير كيدي جعل من المسافر عدوَّ الوطن، عدو الإنسانية وهو مجرّد مسافر يبحث عن وطن!

كم من موظف انتظر نهاية الشهر وكله أمل أن تفوح رائحة الشواء من شرفة منزله، والضحكة مرسومة على شفاه أبنائه وهم ينتظرون طيب الطعام، فـانتهى الشهر وتكلّل البصل ليزفَّ لنا على بطاقة التموين (هدية الحكومة لموظف راتبه نصف كيلو لحمة وكيلو بصل)!

ولا ننسى كم من معلّم نهض من فرشه وفي أذنيه صوت الشعارات الصباحية وهو شامخ أمام التلاميذ مُردّداً: أهدافنا على أمل أن يردّد التلاميذ هذه الأهداف، فيُطرب بشتائم من فم جيل حوّلته الأزمة إلى مردّد شتائم لا يعني له الوطن ومدارسه إلاّ ساحة لعب ومسرح شتائم. كثيرة جداً الأمثلة التي سرقت من عيوننا الأمل، وإن كنّا مازلنا داخل الوطن نراها في ساعة كهرباء إضافية أو يوم تزوّدنا فيه الحكومة بماء في صنابيرنا، أو وقدة دفء لرسالة مازوت مفاجئة!

فكم هي رخيصة آمالنا لدرجة أننا جعلناها حقوقاً نسير وراءها! لكن يا حسرة، سيرنا أشبه بتائه وسط الصحراء لشدّة الظمأ، فظنّ أنه وجد بئراً وسط الصحراء، وعندما اقترب غرق بالرمال وخنقته الكثبان، وذهب الأمل مع حلمه بنقطة الماء!

لا أمل الآن أمامنا نحن السوريون إلاّ وطناً يحتضن جرحنا، وللأسف يبدو هذا الوطن سراباً تاهت فيه جراحنا.

العدد 1105 - 01/5/2024