بريطانيا.. إمبراطورية العار | ارحموا عزيز قوم ذلّ!

د. نهلة الخطيب:

في خضمّ النزاعات الدولية والتوترات الجيواستراتيجية، تراودني تساؤلات ودهشة من الظهور الخافت لبريطانيا.. أين بريطانيا ولماذا تتغيب عن المشهد السياسي العالمي؟ هل هو تغيّب قسري أم مقصود!؟

بريطانيا الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس أصبحت من أفقر الدول الغربية المتقدمة من حيث الرخاء والدخل القومي، وتشهد موجات من الاضطرابات والاحتجاجات المطالبة بتحسين الواقع المعيشي ورفع سقف الأجور، والتي تعيق عمل الحكومة التي تعمل جاهدة للجم هذه الاضطرابات وتجاوز هذه الأزمة بأقل الأضرار. صندوق النقد الدولي توقع صورة مظلمة للاقتصاد البريطاني في عام 2023 مقارنة باقتصادات منطقة اليورو المتأثرة بتداعيات الحرب الروسية الأوكرانية، وخاصة بعد الركود الذي دخله منذ جائحة كورونا وارتفاع مستوى التضخم إلى أكثر من 10% وهو أعلى مستوى تصل له بريطانيا منذ نصف قرن، مما أدى إلى تدهور في مستويات المعيشة وارتفاع الأسعار وكلفة الحياة في جميع مناحيها وانكماش في سوق العقارات، وقد توقع الصندوق أن يصل الناتج الإجمالي البريطاني بنسبة 0,6% وركود قد يستمر طويلاً.

أسباب تدهور الاقتصاد البريطاني هو السياسة الاقتصادية المتبعة وتفضيل التمويل على الصناعة والتقشف على الاستثمار  والاقتصاد المنغلق بدلاً من الانفتاح على العالم، إضافة إلى تزايد أسعار الطاقة بعد الحرب الروسية الأوكرانية وارتفاع معدل التضخم وتباطؤ النمو إبان جائحة كورونا، ولكن الكارثة كانت تختمر منذ عقود بحسب التقارير، فمعدل النمو الاقتصادي البريطاني كان الأبطأ مقارنة مع معظم البلدان الأوربية بعد أن كانت مهد الثورة الصناعية ومصنع العالم في القرن التاسع عشر، الأزمة المالية العالمية عام 2008 ضربت القطاع المالي ببريطانيا، ففرضت الحكومة سياسة التقشف لضمان عدم تفاقم العجز، إلا أن العواقب كانت وخيمة ربطها بعض السياسيين المحافظين بعوامل خارجية بالمهاجرين وارتفاع معدل اللجوء، وطالبوا بخروج بريطانيا من الاتحاد الأوربي لتتراجع الهجرة، فاضطربت التجارة بسبب إعادة فرض الضوابط الجمركية مع الاتحاد الأوربي في أعقاب مفاوضات البريكست التي دامت 4 سنوات، ففقدت بريطانيا 15% من تجارتها وتعطلت سلاسل التوريد وتباطأ الاستثمار ونقصت العمالة بشدة وتقلص حجم الاقتصاد البريطاني إلى أن توقف عن النمو، فمنذ خروج بريطانيا رسمياً من الاتحاد الأوربي في عام 2020 وفق البريكست الذي أعلن عنه رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون مصرحاً: (بريطانيا الأن تملك حريتها في يدها) بدأت بريطانيا تلمس آثاره الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والتي تجسدت بتدهور اقتصادها وعجزه وأزمة نمو عميقة وأزمة سكن وأزمة غذائية أزمة وقود، وتضاءلت قوتها على التأثير خارجياً والتحكم في حدود بلادها بعد مطالبة اسكتلندا بالانفصال، وظهور أزمة الجزيرة الإيرلندية وبدت بريطانيا محصورة سياسياً بالولايات المتحدة الأمريكية.

الإمبراطورية البريطانية التي تأسست في القرن الـ17 أضخم إمبراطورية في تاريخ العالم حتى الآن والقوة العالمية الأولى لأكثر من قرن شملت دولاً ذات سيادة خاضعة لتاجها ومستعمرات ومحميات ودولاً تحت الانتداب وغيرها من أشكال الاستعمار حكمت ما يقارب ربع سكان العالم. ومع بداية الثورة الصناعية في القرن العشرين توسعت الامبراطورية البريطانية وسيطرت على التجارة العالمية وهيمنت على اقتصادات العديد من مناطق العالم بحكم توسع سيطرتها في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية لإيجاد أسواق ومصادر جديدة للمواد الخام لتمويل ثورتها الصناعية من عمليات نهب ثروات الشعوب الفقيرة.

في القرن العشرين بدأت ألمانيا والولايات المتحدة الأمريكية بمنافسة بريطانيا في قيادة الاقتصاد العالمي، وبدأت التوترات العسكرية والاقتصادية بينهم تماماً كما نشهده في وقتنا الحالي بمخاض نظام عالمي جديد، والتي أدت إلى الحرب العالمية الأولى، وتقلصت قوة بريطانيا العسكرية والصناعية بالرغم من سيطرتها على أكبر قدر من الأراضي.

بعد الحرب العالمية الثانية بدأت الإمبراطورية البريطانية تنكمش وتضعف، ومنحت الاستقلال لمعظم مستعمراتها لعدم قدرتها على متابعتها. بدأت بالهند أغنى مستعمرات بريطانيا واعتبر البعض عملية نقل هونغ كونغ إلى الصين عام 1997 مؤشراً على نهاية الإمبراطورية برغم أن هناك العديد من الأقاليم عبر البحار ما تزال تحت السيادة البريطانية، وشكلت المستعمرات البريطانية السابقة بعد استقلالها رابطة الكومنولث. نخبة قليلة تتحكم في مؤسسات صناعة السياسات البريطانية مركزية ومتطرفة للغاية وسرية، فرئيس الوزراء يستطيع إرسال قوات للحرب دون مناقشة البرلمان ودون مساءلة، وبالفعل تحارب بريطانيا الآن في عدة حروب سرية في اليمن وليبيا والعراق وسورية جلبت الموت والمجاعة والدمار لملايين المدنيين الأبرياء دفاعاً عن مصالح هذه النخبة التجارية، وسياستها التي تلتزم بها الحكومات البريطانية المتعاقبة هي عدم التعليق على أي عمليات استخباراتية حساسة لأسباب تتعلق بالأمن القومي. عادة لا تغطي وسائل الإعلام في بريطانيا جميع السياسات الخارجية البريطانية، وإن نشرت فعادة ما تقوم بتضخيم سياسات الدولة ونشر معلومات مضللة كادعائها أن سياسات بريطانيا في الشرق الأوسط تقوم على دعم الديمقراطية وحقوق الإنسان.

ماذا تركت بريطانيا البعيدة عن الديمقراطية الحقيقية وراءها؟! بريطانيا إمبراطورية لها ماضٍ استعماري مشين مبني على المجازر والمجاعات ومعسكرات اعتقال وتغذية الطائفية وحروب الأفيون، وما تزال عذابات الشعب الفلسطيني شاهداً حياً على وحشية الإمبراطورية البريطانية المندثرة والمرهونة بوعد بلفور عام 1917 المبني على تشكيل وطن لعصابات إجرامية يعتنقون الديانة اليهودية، وارتكبت خلال فترة انتدابها عدداً من المذابح بحق الفلسطينيين، وقمعت الثورات الفلسطينية ثورة البراق والقسام والثورة الفلسطينية الكبرى، وسهلت هجرة اليهود إلى فلسطين وامتلاكهم الأراضي الفلسطينية، بنت لهم مستعمرات وما زالت تحتضن إسرائيل وترعاها إلى الآن.

قضى نحو 19 مليون هندي نحبهم جوعاً خلال فترة استعمار الإمبراطورية البريطانية للهند التي كانت تصدر ملايين الأطنان من القمح من أراضيها إلى بريطانيا، وأربعة ملايين بنغالي عام 1943 ماتوا جوعاً بسبب الاستيلاء على طعامهم وإرساله إلى الجنود البريطانيين بعهد ونستون تشرشل، قسمت الهند على أساس ديني وغذّت الحروب الطائفية التي راح ضحيتها ما يقارب مليون إنسان، معسكرات الاعتقال التي كانت تُمارس فيه أشد أنواع التعذيب والانتهاك لحقوق الانسان والاعتداءات الجنسية ومعسكر ماو ماو شاهد على وحشيتهم بفترة الخمسينات، إذ يقدر أعداد الضحايا 100 ألف قتيل، ومعسكر اعتقال بوير احتجزت فيه بريطانيا نحو سدس سكان بوير وأغلبهم من النساء والأطفال، وأعداد كبيرة من الزنوج الأفارقة صارت عرضة لتفشي الأمراض، فضلاً عن المجاعة التي قضت على معظمهم.

حروب الأفيون حروباً شنتها الامبراطورية البريطانية في القرن التاسع عشر أغرقت فيها الشعب الصيني في مستنقع الادمان على الأفيون لحماية تجارتها الخارجية تجارة الأفيون التي كانت تدر أرباحاً كبيرة جداً، وللسيطرة على الموانئ الصينية، وبقيت الصين على مدى قرن كامل تحت السيطرة البريطانية تنازلت فيه عن جزيرة هونغ كونغ وعدة موانئ استباحوا سيادتها وكبحوا نهضتها.

قد يكون في هذه الأزمة جانباً جيداً، إذ أدت إلى درجة من التواضع والذل لأمة كانت لعقود طويلة قوة عظمى ومنارة للازدهار، هناك ضرورة للتحول عن حكم الأقلية ومشاركة شعبية أكبر في صنع القرار يغير السياسات الداخلية والخارجية لبريطانيا ينعكس داخلياً بعودة بريطانيا إلى الاتحاد الأوربي على الأقل.

العدد 1105 - 01/5/2024