العائلة السورية..  صورة عن بلد منكوب

 حسين خليفة:

ـ لم يبقَ سواي هنا، لا عمل لي سوى ملاحقة معاملات تجديد جوازات السفر والوكالات العامة والخاصة، واستخراج أوراق لعقارات ومحلات لأولادي وعائلاهم المتناثرين في أصقاع الأرض.

يقول أبو رامي وهو يجرُّ جسده المنهك وأعوامه السبعين على أدراج مبنى النفوس، حاملاً رزمة أوراق ليسجل حفيداً له ولد في ألمانيا وحفيدة ولدت في تركيا، ويحمل في يده الأخرى إضبارة ثانية لإكمال بيع عقار لابنه المقيم في الخليج، وهو آخر العنقود كما يقول، وقد أسس لنفسه محلاً صغيراً لإصلاح السيارات، بعد أن اكتسب خبرة في إحدى وكالات السيارات التي تكاثرت كالفطر قبل الحرب، خلال سنوات الانفتاح المجنون وانفلات وحوش الرأسمال على حساب الاقتصاد السوري الذي منح تسهيلات للمستثمرين لم يعرفها التاريخ، والمستثمرون هم أنفسهم يعدون على أصابع اليد الواحدة، يتقاسمون الاقتصاد السوري مع كبار المتنفذين الذين يمسكون بقوة بالقرار السياسي والاقتصادي والثقافي، وحتى بكازينوهات طريق معربا.

ما علينا!

المهمّ أن (الولد)، يقول ابو رامي، أسس المحل وجهزه بتجهيزات حديثة وكومبيوتر لكشف الأعطال، واشترى منزلاً صغيراً على أطراف دمشق وأثثه ليقيم فيه مع فتاة أحلامه.

طار المحل بعد أن أصبحت المنطقة التي فتح فيها ساحة حرب بين فرق شتّى، آخر همها الإنسان وأحلامه، ثم طار البيت مع امتداد الحرب، ثم.. طار الولد إلى دبي ليعيد تأسيس حلمه هناك.

أنا الآن رجل وحيد بعد أن رحلت أمهم، أقوم كل يوم بما أستطيع من تسيير أوراق هذا أو ذاك منهم.

عائلتي الآن موزعة بين تركيا ودبي وألمانيا وكندا، عائلة متعدّدة الجنسيات، وأنا الوكيل عنهم جميعاً وعن أولادهم الذين كبروا في تلك البلاد، ولم تعد سورية تعني لهم شيئاً إلاّ (بيت جدّو)، يعض أبناء الجيل الذي ولد وكبر هناك لا يعرف من لغة الأهل سوى اسمه واسم جده الباقي هناك ينتظر موته ليقطع آخر رابط له مع بلد كان اسمها سورية.

عائلة العم أبو رامي صورة لمئات الآلاف من العائلات السورية التي مزّقتها سنوات الحرب، وما عجزت عنه سنوات الحرب فعلها الفقر والظلام والخوف من اختفاء مفاجئ على يد زوار الليل.

ماذا تفعل الحكومة تجاه وضع كارثي كهذا؟!
إنها تستمر في هوايتها الأثيرة: جباية الأموال، فتسمع كل يوم عن زيادات فلكية في تكاليف إصدار جوازات السفر أو تجديدها، ومعاملات الولادة والوفاة والبدل النقدي وتجديد الوكالات وغيرها ممّا يتعلق بنصف الشعب الذي صار خلف الحدود.

وكانت إلى وقت قريب تصرف الحوالات المالية التي يرسلها الأبناء إلى أهلهم (ضمن السور) بنصف قيمتها الحقيقية، وتأخذ الباقي آمنة مطمئنة الى أنها تمارس أكبر عملية سطو على أبنائها الذين لا حول لهم ولا قوة، وتأخذ خراج كل غيمة تمطر حتى لو كانت في أستراليا.

طبعاً يضاف الى كل ذلك ما يستنزفه الفساد المستشري في جميع مستويات القرار، فمقابل كل مرحلة من المعاملة عليك أن تدفع، إضافة إلى ما تدفعه لخزينة السلطة بموجب إيصالات نظامية، (إكراميات) تفوقها، وإلاّ فإنّ أوراقك ستنام في الأدراج وربما تضيع في زحمة طالبي الهرب من هذا الجحيم.

لا تجتمع العائلة السورية المتناثرة في أصقاع الأرض إلّا على شاشات باردة، حيث لكل عائلة (كروب) على (الواتس أب) أو (الإيمو) أو (البوت) أو (المسنجر) أو غيرها من وسائل التواصل، وتبدأ سهرتهم في دقائق مجيء الكهرباء وعودة شبكات الخليوي إلى العمل، لأنها تصبح خارج التغطية في معظم مناطق سورية لمعظم الوقت بعد امتداد ساعات قطع الكهرباء إلى أكثر من ست ساعات أو سبع، مقابل نصف ساعة أو أقل من التزويد بالكهرباء كنتيجة وعلامة من علامات نصرنا المؤزّر على المؤامرات الكونية.

هذا عمّن (بقي على العهد) من الأبناء والبنات، فيما الكثيرون سرعان ما يضجرون من كثرة الكلام والسؤال، ولا يتصلون بمن بقي من العائلة (خلف السور) إلاّ لماماً في الأعياد والمناسبات بانتظار رحيل من تبقى إلى بلاد أخرى أو إلى قبور ملأت البلاد إضافة إلى من دفن تحت أنقاض منزله في القصف أو الزلزال.

هذه الصورة السوداء الكئيبة والحقيقية للعائلة السورية هي وحدها سبب لازم وكافٍ ليقف مسؤول ما، أيُّ مسؤول حتى لو كان مختار قرية نائية، أمام الناس ويقول: أنا سببٌ من أسباب هذا الشتات، أنا سبب، أضعف سبب ربما، في هذه الكارثة، وهذه استقالتي!

لكنه لن يفعل.. لن يفعلها أبداً.

العدد 1105 - 01/5/2024