مثلث تحت الخطر

يونس صالح:

يبدو أن ديمقراطية الفقر تختلف عن ديمقراطية الأغنياء، قد يتساوى الفريقان في امتلاك أشكال دستورية وهيئات برلمانية ونظم انتخابية، لكنهما يختلفان بعد ذلك في حقيقة ما يجري، حقيقة المضمون الديمقراطي.

كنا نتحدث دائماً عن أن الفقر لا يوفر تربة صالحة تنمو فيها الديمقراطية، فصوت الناخب يزداد حرية كلما زادت قدرته الاقتصادية.. وعلى العكس – وكما تقول بعض الأدبيات السياسية- فإن من لا يملك قوت يومه لا يملك صوته، ذلك أن أصحاب الثروة في المجتمع يكونون أكثر قدرة على التأثير وامتلاك صناديق الانتخاب.

كنا نربط أيضاً بين الفقر ودرجة الوعي، فكلما كان الفقر أكثر انتشاراً، كان التعليم أقل انتشاراً أيضاً، وكانت الأمية حائلاً دون انتشار الوعي والمعرفة، اللذين يمثلان ركيزة أساسية للمشاركة السياسية.

أشياء كثيرة كنا نعزوها للأسباب الاقتصادية، حتى باتت المشاركة ولعبة الديمقراطية كأنها في ذيل الاهتمامات عند الفقراء، برغم أن الديمقراطية قد تكون هي المفتاح للتقدم وحل مشكلات الفقر وانخفاض مستوى المعيشة.

كنا نفعل ذلك، لكننا لم نكن ننطلق من قاعدة إحصائية أو بحثية تحسم ما نقوله. إلا أن الإحصائيات والدراسات التي قامت بها اليونيسكو مؤخراً قد ربطت فيها بين الديمقراطية والفقر، وقدمت أرقاماً كبيرة، متخذة من أمريكا اللاتينية نموذجاً واضحاً للقضية. إن هذه الأرقام تضع أيدينا على ما يسمى (مثلث الخطر)، ذلك الذي يتخذ الفقر قاعدة له، كما يتخذ العنف وغياب الديمقراطية ضلعين من أضلاعه.

تقول الأرقام إن أمريكا ليست الأكثر فقراً في العالم، إنها ليست أكثر فقراً من إفريقيا أو معظم بلدان آسيا، ومع ذلك فإن من هم تحت خط الفقر ترتفع نسبتهم إلى حد كبير.

في بوليفيا حسب الإحصائيات يعيش 80% من سكان الريف تحت خط الفقر، وفي غواتيمالا 80% أيضاً، وبيرو 72%، والبرازيل 60%، وتهبط النسبة إلى 30% في الأرجنتين والأورغواي وغيرها.

إن الفقر يجد سبيله هنا إلى أقوام تحسبهم أغنياء، والسبب هو سوء توزيع الدخل، الذي يتم قياسه طبقاً للقاعدة المشهورة، قاعدة شريحة العشرين بالمئة العليا من الدخول، وشريحة العشرين بالمئة الأدنى في الدخل.

ورد في تقرير صادر عن الأمم المتحدة عام 2010 أن نسبة جرائم القتل في أمريكا اللاتينية تتراوح بين 5 و77 لكل مئة ألف من السكان. الحد الأدنى في باراغوي والحد الأقصى في كولومبيا التي تقترب فيها نسبة الجرائم إلى 8% من عدد السكان.

إن بين الضلعين، ضلع الفقر وضلع العنف والجريمة، علاقةً وثيقة، في بلدان فقيرة وكثيفة السكان تبرز سيكولوجية الفرصة المحدودة، وفي ظلها يحدث التكالب على فرصة العمل وفرصة الرزق وفرصة السكن، ويلجأ البعض إلى العنف والجريمة. ترتفع نسبة البطالة وتزدحم المساكن غير الصحية بالبشر، وتنتشر مع الاثنين جرائم المال والنفس، بل وجرائم الشرف والعرض أيضاً. إنه مجتمع السخط والغضب يصنعه الفقراء، ويشكله العنف، والسؤال: ما هي علاقة الديمقراطية بذلك؟ وهل يكون غياب الديمقراطية سبباً أم نتيجة؟

لقد حاول مركز للأبحاث في أمريكا اللاتينية أن يقيس درجة الرضا والسخط عن الأوضاع الديمقراطية في القارة، فأجرى دراسة حول ذلك جاء فيها:

إن نسبة الذين عبّروا عن رضاهم عن الأوضاع الديمقراطية لا يزيد على 20% ممن شاركوا في الاستفتاء، أي أن هناك 80% قد عبّروا عن عدم رضاهم بدرجات متفاوتة، وذلك بالرغم من وجود برلمانات وأحزاب ومجتمع مدني!

إنها الديمقراطية الشكلية التي تلقى الضربات من عدة اتجاهات، فالذين يسيطرون اقتصادياً يسيطرون سياسياً، والغائبون اقتصادياً يغيبون سياسياً، وبينما يأتي العنف كنتيجة للفقر، فإن أجهزة السلطة تتخذه ذريعة لإجراءات غير ديمقراطية، وهو ما جرى في نماذج كثيرة، حيث تسود قوانين الطوارئ في عدد من البلدان، ويسود حكم (الرجل الواحد) في بلدان أخرى بحجة أن البلاد في أوضاع انتقالية أو غير طبيعية وغير ذلك. لم تكن الحجج صحيحة في معظم الأحيان، فقد تكون الديمقراطية والمشاركة علاجاً للعنف تربط خلايا المجتمع ولا تفجّرها، بل قد تساهم في علاج الخلل في توزيع الدخل. الأهم أن هناك تلازماً بين الفساد وغياب الديمقراطية، فليس من صالح الفئات الفاسدة والمستغلة في عالمنا الثالث أن تتمتع مجتمعاتها بدرجة من الشفافية تفضح تصرفاتهم، إنهم يعملون في الظلام، ويثرون عن طريق الربح غير المشروع، ويمتلكون ويمارسون استهلاكاً استفزازياً للآخرين، ومن ثم فإن غياب المعرفة وتجنب الرأي العام هما الطريق لاستمرار هذه الفئات، وعلى العكس، فإن تداول السلطة يساعد على تعرية الفساد، بل إن الكثير من الحكام تنكشف فضائحهم فور ابتعادهم عن السلطة، حتى يمكننا القول إن السلطة الحرام والمال الحرام شيء واحد.

إنها حلقات متكاملة وأرقام كاشفة لمثلث: الفقر- العنف – غياب الديمقراطية.

 

العدد 1104 - 24/4/2024