المسألة أبعد من أوكرانيا!

طلال الإمام_ ستوكهولم:

عندما انتصفت سنوات الحرب العالمية الثانية دخلت الولايات المتحدة الأمريكية تلك الحرب إلى جانب محور الحلفاء. هناك العديد من الآراء التي تقول إن هذا التأخر الأمريكي في مواجهة النازية كان مقصوداً، وهدفه انتظار نتائج تلك الحرب ومن سينتصر فيها، إضافة إلى الأمل بهزيمة الاتحاد السوفيتي، فقد كان لديها خوف من دوره المتصاعد عالمياً، وأخيراً تدمير أوربا ووضعها تحت الجناح الأمريكي اقتصادياً ثم سياسياً. دخل الأمريكان الحرب إلى جانب محور الحلفاء عندما لاحت في الأفق بشائر هزيمة النازية الهتلرية. ضمن هذه الصورة نفهم طرح الولايات لمشروع مارشال بعد انتهاء الحرب مباشرة. المعروف أن مشروع مارشال طرح عام 1947 هدفه المعلن إعادة تعمير أوربا، وقد أعلنه جورج مارشال رئيس هيئة أركان الجيش الأمريكي أثناء الحرب، ثم وزير الخارجية. كلنا شهود أنها بهذا المشروع فرضت الدولار الأمريكي عملةَ تداول عالمية، وفرضت السيطرة الاقتصادية والسياسية على دول أوربا الغربية وجعلتها أداة لمواجهة تصاعد نفوذ المعسكر الاشتراكي ودول العالم الثالث التواقة للتحرر السياسي والاقتصادي في الحرب الباردة.

لكن يبدو أن الكثير من سياسيي البلدان الأوربية لم يستفيدوا من دروس الحرب العالمية الثانية ونتائجها جهلاً أو معرفة.

تقوم الولايات المتحدة منذ بدء العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا باتباع سيناريوهات مشابهة. والخطة الجديدة ليست وليدة الحرب في أوكرانيا التي كانت فقط السبب لإعلانها. أبرز ملامح الخطة هي النقاط التالية:

أولاً_ محاولة تدمير أو إنهاء دور الاتحاد الأوربي الذي تعده الولايات المتحدة منافساً محتملاً لسيطرتها السياسية والاقتصادية (في سياق التحالف الأنجلو سكسوني نفهم سبب انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوربي). لذلك جرى توريطه في الحرب الأوكرانية عسكرياً واقتصادياً، الأمر الذي انعكس أزمة اقتصادية شاملة وبنيوية تمر بها بلدان ذلك الاتحاد.

ثانياً_ محاصرة روسيا وكبح دورها الصاعد عالمياً وسعيها خلق عالم متعدد الأطراف. وهذا يمر عبر آلة دعائية ضخمة تشمل تسويد كل ما هو روسي (أدبياً، موسيقياً، رياضياً، وطبعاً اقتصادياً وسياسياً).

وبكلمة: خلق فزّاعة لدول الاتحاد الأوربي كي تهرول إلى الانضمام للمظلة الأمريكية والناتو لحمايتها (كذا) وتنفيذ أجندتها لمواجهة الدب الروسي. هذا الهلع أدى إلى إفراغ مستودعات الأسلحة لتلك الدول بإرسالها إلى أوكرانيا، وبالتالي الهرولة لشراء أسلحة جديدة طبعاً من الولايات المتحدة، وهو ما سنعود إليه لاحقاً بشيء من التفصيل.

ثالثاً_ عبر فرض حصار شامل على روسيا وبشكل خاص على توريد النفط، الغاز والمواد الأولية الأخرى.. فرضت الولايات المتحدة على الدول الأوربية أن تكون هي نفسها المورّد البديل للطاقة ولكن بأسعار خيالية.

رابعاً_ تسعى الولايات المتحدة إلى جذب رؤوس الأموال الأوربية للاستثمار في أمريكا عبر مغريات متنوعة، وبالتالي إدخال دول الاتحاد الأوربي في أزمة اقتصادية شاملة تسرّع من أزمتها البنيوية التي بدأت إرهاصاتها منذ فترة.

نورد أدناه بعض المعلومات عن الصفقات التي عقدتها دول الاتحاد الاوربي لشراء أسلحة من الولايات المتحدة الأمريكية، الأمر الذي يؤدي إلى مضاعفة أرباح المجمع الصناعي الحربي الأمريكي وإنهاك البلدان الأوربية، مع ملاحظة أن هذه الصفقات وقّعت بعد بدء العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا (أي منذ أقل من عام) وتتزايد باستمرار، وهذه المعلومات لا تشمل الأسلحة التي تباع لحلف الناتو.

*وقعت بولندا اتفاقية من أجل استيراد 250 دبابة أمريكية الصنع من طراز (أبرامز)، بقيمة 1.4 مليار دولار، وذلك في أكبر عملية شراء أسلحة في تاريخ الجيش البولندي.

* قد تشتري فنلندا طائرات أمريكية بـ100مليار كرون بدلاً من الطائرات السويدية التي كان من المقرر شراؤها.

*  تشتري ألمانيا بشراء أسلحة من الولايات المتحدة بقيمة 8.4 مليارات دولار بحجة  تحديث أسطولها من الطائرات الحربية.

* اشترت إستونيا منظومة صواريخ أمريكية بقيمة 200 مليون دولار.

* تعتزم ليتوانيا شراء طائرات مسيرة تبلغ قيمتها قرابة الـ 48 مليون دولار أمريكي، وتصنعها شركة AeroVironment الأمريكية المتخصصة في صناعة الطائرات المسيرة الانتحارية. إضافة إلى صفقة بقيمة 495 مليون دولار لشراء ما يصل إلى ثمانية أنظمة صاروخية أمريكية من طراز M142 High Mobility Artillery Rocket.

عموماً ارتفعت مبيعات الأسلحة الأمريكية إلى 50 مليار دولار العام المالي 2022   وهي قفزة كبيرة مقارنة بإجمالي مبيعات العام المالي الماضي التي بلغت قرابة 35 مليار دولار، وفقاً لما ذكره موقع (بريكينج ديفينس).

تلك هي عموماً أسباب عرقلة الولايات المتحدة، وعبر الضغط على بلدان الاتحاد الأوربي، ومنعها أي حوار او حل سياسي للحرب الأوكرانية، بل تسعى إلى توتير الأوضاع في مختلف بقاع العالم.

السؤال الذي يتبادر للذهن هو: تُرى لو أن هذه الأموال التي تصرف على العسكرة والحروب وإنتاج الأسلحة استُثمرت في البناء السلمي: على التعليم، البيئة، السكن، مكافحة الأمراض والجوع، ألم يكن أجدى ولصالح سكان الكرة الأرضية جمعاء والحياة؟!

ختاماً، يتضح أن المسألة أبعد من أوكرانيا التي تستخدم كأداة لتنفيذ أجندات الولايات المتحدة والناتو.

لكن من قال إن التاريخ يسير دوماً كما تريد وتشتهي قوى رأس المال والاحتكارات المنفلتة من عقالها؟

نعم، ثمة عالم جديد متعدد الأطراف يولد وإن ببطء، مقابل عالم قديم احادي القطب ينازع ولذلك يصبح أكثر شراسة وعدوانية والأبرياء في العالم يدفعون الثمن.

نعم، سيعود العالم للسير على قدميه، لكن لابد من العمل لذلك.

العدد 1105 - 01/5/2024