حول توجّهات التفكير السائدة في بلداننا النامية

يونس صالح:

هناك أنماطٌ عديدة للتفكير، أبرزها التفكير التذكّري الاتباعي، والتفكير الاستنباطي، والتفكير القياسي، والتجريبي، والنقدي، والإبداعي، والحواري، وغيرها.. إلا أن أي مجموعة من أنماط التفكير هذه يتوقف على السياقات المؤسسية والأجواء المجتمعية التي تنتمي أيٌّ منها إليها لتكون في خدمة أهداف مجتمع ما، سواء من أجل المحافظة على أوضاعه الراهنة، أو ساعية وحريصة على التجدد والتطور نحو حياة أفضل وأكمل.

ويمكننا بصورة عامة أن نضيف معظم الدول النامية بانتمائها إلى مجموعة التفكير الذي يقتصر على تنمية الذاكرة، واتباع المنهج الاتباعي في ثقافتها ومؤسسات تعليمها، وبلك يقتصر تفكيرها وينحشر في القضايا الراهنة، وفي تذكّر الواقع وحفظ محتوياته، وفي الحكم على كل قضاياه قياساً على ما جرى في ماضيه، واستنباط الأحكام على أساسها، متجاهلة أن التاريخ لا يعيد نفسه أبداً، وكثيراً ما تقع فيها الأزمات والتناقضات بين احتياجات الحاضر والمستقبل، والسعي إلى تثبيت الأوضاع الراهنة وما تقتضيه من تغيير لمقاومة عوامل التخلف الكامن في أحوال البشر. ويغلب على معظم تلك البلدان النامية هيمنة نظم حكم شمولية استبدادية، سواء كان أبدياً أو أوتقراطياً أو ثيوقراطياً أو متشحاً بأسمال ديمقراطية زائفة.

وفي هذه الأنظمة يتوجه التفكير عادة إلى التمركز حول رب العائلة وراعيها، أو مالك الحل والعقد فيها، أو صاحب القبضة الحديدية على حركتها، أو الزعيم الضرورة، منه وإليه تبدأ وتنتهي إدارة الدولة. يصدر أوامره وتوجيهاته وتكليفاته، ولا معقب لرأيه، وفي جميع الأحوال تحاط شخصيته بنوع من المهابة أو القدسية والدعاية لقدراته الهائلة. وفي مثل هذه الأنماط من إدارة الحكم يصبح التفكير المطلوب من نوع التلقين والتعبئة، ومن تنمية تفكير الذاكرة الاتباعي الذي يلتزم بإدارة الحاكم ومن يحيط به من أصحاب النفوذ المستمد من إرادات الحاكم المطلقة.

وفيها تسيطر قوى المركزية والبيروقراطية العمياء، وبذلك تسير الأمور في طريقها المرسوم من دون اجتهادات أو محاولات لإعمال التفكير الناقد أو المبدع. وبذلك أيضاً يمكن ضمان مسيرة المجتمع في استقرار الأوضاع واستمرار الحاكم المطلق مطمئناً على سيطرته التامة في مواجهة أي تحديات فكرية أو مطالب للتغيير يمكن إخمادها بمختلف الوسائل القمعية، وفي هذه الأنماط والقوالب الفكرية الأوتوقراطية يشيع التفكير الخرافي أو التفكير الماضوي في القياس، على ما جرى في عهد السلف الذي يوصف دائماً بأنه صالح، ومن ثم ضرورة الاقتداء به، وتظل إيديولوجية المؤسسات التعليمية محافظة على مضامينها وقيمها وتحيزاتها وتمجيدها للأوضاع الراهنة، والأوضاع القديمة وتقاليدها التاريخية.

ويشير علماء الاجتماع في دراساتهم لأوضاع البلدان النامية إلى عشرة من أنماط التعليمات السائدة من مظاهر التفكير فيها. أولاً، التفكير من خلال البطل، وانتظار تعليمات، وثانياً التفكير من خلال الأسطورة، وهي التماس الحلول من مصادر غيبية تفرج الكروب وتقضي الحاجات، وتتنبأ بالمستقبل أو تحقيق المراد من رب العباد، وتبسيط المسائل المقدّرة، وثالثاً، التفكير من خلال تضخيم الذات، والتغلب على المشكلات والتحديات دون توفر الإمكانيات والوسائل المطلوبة، ورابعاً التفكير من خلال الخوارق وهي التي يعتبر حدوثها أو الالتجاء إليها وسيلة لحل المشكلات الشخصية أو المجتمعية، وخامساً التفكير من خلال السلطة المتمثلة في رؤساء الإدارة ونظم البيروقراطية، وسلطة المال والرشوة، وسادساً التفكير من خلال الإسقاط على الخارج، وتتضمن كل عوامل التبرير لعوامل خارج الذات، وبخاصة في حالات الفشل، وسابعاً التفكير من خلال النظرة الرومانسية للتراث الذي خلفه السلف الصالح، وما أحلاها عيشة الفلاح وما أجمل ما مضى من الأيام، وثامناً التفكير الهارب من المواجهة، تأجيل النظر في الموضوعات المعقدة، وإحالتها إلى لجان ثم لجان، وقد يتم تزييف الواقع بعبارات أو كليشيهات براقة، أو إحصائيات مضللة، وتاسعاً، التفكير من خلال الزمن، وهو نوع خاص من الهرب، يرتبط بتجاهل الزمن، إذ إن المشكلة ستحل نفسها مع مرور الوقت، وعاشراً التفكير من خلال المصلحة الخاصة والنفاق، متمثلة في شخصية الفهلوي وطموحاته.

ولا فكاك من أسر مثل هذه المنظومة الشمولية الاستبدادية وأنواع التفكير السائد بين معظم مواطنيها، إلا من خلال التحول الديمقراطي، وسيظل قائماً هذا التوجه الفكري الذي لا يستند إلى واقع معلوم مشخص، ولا يلتزم الأسلوب العلمي ومناهجه في معالجة الشؤون الحياتية، دون العمل من أجل التحرك الديمقراطي الذي يتضمن إلى جانب ملامحه السياسية، التأكيد على حرية الفكر والمجتمع في إعمال العقل والمشاركة الجماعية والحق في التعبير والتنظيم، والمعارضة بالرأي المغاير، وبتحقيق العدالة الاجتماعية وتوافر مقومات حقوق الإنسان، ودون العمل أيضاً كي تصبح المؤسسات والقوانين ذات دور فعال في مسيرة المجتمع، وفي إثراء حياة الفرد والجماعة، ولن يقضى على الأوهام والأساطير الفكرية إلا بما يصاحب الديمقراطية من ثقافة تبني الأسلوب العلمي في التفكير ونشر الثقافة العلمية بين الجماهير.

 

العدد 1104 - 24/4/2024