ويمضي العام تلو العام

عباس حيروقة:

يمضي العام تلو العام ونحن نكبر.. تزداد أعمارنا ونزداد نحولة وشحوباً..

ظهورنا تحدودب ويغزو الشيب رؤوسنا.. إلا أنها سنّة الحياة، وبدهيتها إذ تمضي بنا في دروب وعرةٍ جبليةٍ شائكةٍ حينا وحينا ظليلة وارفة..

تمضي بنا تجاه عوالم أكثر غرابة ودهشة وأحياناً مجهولة تيّاهة..

يمضي العام تلو العام ونحن نتأمل، بل نقرأ ما خطّه لنا الآباء والأجداد من أسفار أصالة وانتماء ومحبة، نتأمل تلك الأمداء من جبال نضرة وبساتين وحقول يانعة الثمار، فترتسم قبالتنا وجوههم المعفّرة بالنور وبالضوء والتشابه، أرغفة خبزنا اليومي.

يمضي العام تلو العام ونحن نتأمل أبناءنا وهم يَحْبون على بساط من النعناع ويعدون حفاة على ضفاف سواقي الصباح النديّ، وينسجون من أشعة الشمس مدارس وملاعب وساحات وينشدون في فيء العلم أغاني الأمل.. الحياة.

يمضي العام تلو العام ونحن مازلنا نحاول أن نعبّد بكل قداسة دروب الحياة ببعض بعض الأمل بعد كل هذا الخراب الدمار الموات المخيِّم حولنا.

بعد كل هذي الحروب الطاحنة التي أتت على الأخضر واليابس، فتركت مدننا وقرانا وبيوتاتنا مسكونة بالوحشة وبالفقد والغربة القاتلة.

الحروب التي شردتنا وتركتنا صدى صرخات قهر وعذابات عند بوابات البحار والعواصم.

الحروب التي حوّلت أقمارنا إلى صور معلقة في صدر جدار متصدع من شدة صرخات فقد ساكنيه.. أو على أعمدة الكهرباء او على أسوار مؤسسة هنا ومدرسة هناك.

نعم، بعد كل هذا السواد الذي امتد لسنوات عشر ونيف، لا بدّ لنا كسوريين من أن نحاول أن نستخلص من مزج بعض ألوان الحياة القاتمة لوناً ابيض نلون فيه وجه صبح مشرق لا ريب.

يمضي العام تلو العام بكل ما فيه من دموع قهر وفقد وغربة واغتراب، ولكن لابد من أن ننظر بعينين من نهر ومطر إلى أطفالنا وهم يمضون نحو الشمس بابتساماتهم وضحكاتهم وأناشيدهم.. فيقهرون بل يذيبون جليد أيامنا الماضيات، فننهض من تحت أغطيتنا ونفتح النوافذ والأبواب، وبعزيمة نشدّ الشمس إلى بيوتاتنا وحدائقنا وبساتيننا ونمضي بها إلى كل بيت وشارع.

نعم، يمضي العام تلو العام ورغم كل هذا البرد وهذا العوز وهذا القهر حدّ الذل، نحاول وسنبقى نجهد في نشر ثقافة الفرح والمحبة والسلامة والسلام انّى أُتيح لنا..

سنبقى نجهد في التأسيس لثقافة مغايرة للسائد اليومي ثقافة من نسيج العقل السوري الأول، صاحب أول مدونة موسيقية، وصانع أول سفينة اخترقت عباب البحر ومخترع أول أبجدية وأول معصرة زيتون وأول الألوان.

وأيضا هو صاحب الرقم المكتشف منذ الألف الثاني قبل الميلاد والذي يقول:

(اعبد ما تشاء ولو كان حجراً ولكن لا ترمني به).

هي ذي ثقافة السوري.. ثقافة الإله بعل السوري، صاحب الرسالة التي مازالت منقوشة على رقم يعود أيضاً لآلاف السنين والتي تقول: (حطّم سيفك واحمل معولك واتبعني لنزرع الأرض سلاماً ومحبة).

انها ثقافة السوري المسالم والمفطور على كل ما هو جميل وخيّر.. كيف لنا أن نحرّره من تلك الثقافات الطارئة التي غزته، ثقافة القتل وسفك الدم وبقر البطون وتعليق الرؤوس على أسنّة الرماح؟! كيف لنا أن نعيد ما كان له وعليه من حياة تطفح بالشعر وبالموسيقا.. حياة تطفح بالقمح وبالزيتون وبالماء؟!

يمضي العام تلو العام والسوري يزداد خسارة وخسارة، ولكن لا بد من الأمل.. لا بدّ من الخير والجمال والمحبة.. ولا بد من الفرح، كيف لا ونحن أبناء الشمس والينابيع والأنهار أبناء الحياة وصنّاعها!

معاً كسوريين تجاه واقع أقل دموية وخراباً وقبحاً وعذابات.. أقل فساداً وإفساداً وخسارات.

معاً تجاه عام يليق بصمودنا وتضحياتنا ودموع أبناء الرغيف النظيف النظيف!

العدد 1105 - 01/5/2024