تغريب العالم

يونس صالح:

كانت صيحة الجنرال غورو، عندما وقف أمام صلاح الدين (صارخاً): (استيقظ يا صلاح الدين.. لقد عدنا!)، تعني من وقتها صعود سيادة الرجل الأبيض الغربي، وبالتالي اعتبرت البدايات الأولى لتغريب العالم، وتأكيداً لذلك اليقين الغربي المطلق في أن التدوين التاريخي لأوربا هو التدوين التاريخي للبشرية.

على أية حال، كانت البداية لهذا التغريب الاستعماري تقوم بغير وازع من ضمير، وباندفاع محموم للسيطرة على البشر، وغزو الأسواق، ونهب المواد الأولية، والبحث عن أراضٍ جديدة وأيادٍ عاملة لتحقيق تلك الإمبريالية الكولونيالية.

مما لا شك فيه أن ابتعاث الغرب كان ابتعاثاً صليبياً، وأن الإمبراطوريات الغربية كانت استبدادية، شأنها في ذلك شأن جميع الإمبراطوريات التي نشأت تاريخياً، بدءاً من بابل وانتهاء بالإمبراطورية الأمريكية، وتحت الدعاوى الكثيرة التي طرحها هذا الغرب في صعوده الإمبريالي للسيطرة والفتح وإحكام القبضة، مثل دعاوى: النموذج العالمي، والتأليه للتقنية التي أصبحت أداة لاستعمار الأرواح والأجساد، والسيطرة الاقتصادية على أجزاء واسعة من العالم كي تغدو حياته أسيرة لحلم الامتلاك، مرتهنة لرفاهية خادعة تتمخض عن سعادة زائفة وبعض الدولارات الإضافية، والغزو الثقافي الذي يتدفق عبر وسائل الإعلام (صحف، إذاعات، تلفزيونات، أفلام، كتب، أسطوانات وغيرها) التي تمتلك فاعليتها وتأثيرها في العقل وأشكال السلوك، ومناهج التعليم، ويكفي أن تعرف أن سوق الإعلام تحتكره أربع وكالات: أسيوشيتدس برس، ويونايتد برس (أمريكا)، ورويترز (بريطانيا)، وفرانس برس (فرنسا)، وبتأمل تلك الوسائل وتتبع غايات التغريب والنظرة التاريخية إلى المسيرة المؤكدة لصعود الغرب، يكمل الانتصار الذي لا يعد في مجمل أحواله انتصاراً للإنسانية.

 

ما هو الغرب؟

لكي نعرف الغرب، ينبغي علينا، كما يرى بعض علماء الاجتماع، النظر إليه باعتباره كياناً جغرافياً: أوربا، وصاحب الديانة المسيحية كما يقال، وله فلسفة هي التنوير، وضمن إثنية هي العرق الأبيض، وداخل نظام اقتصادي: الرأسمالية.

وبما أن الأرض تدور، فالحقيقة أنه لا وجود لما يسمى بالغرب جغرافياً، وبالتالي فقد أصبح الغرب في حقيقته فكرة إيديولوجية أكثر منها فكرة جغرافية. كما أننا لا يمكن أن نختزل الغرب إلى كيان عرقي حتى على اعتبار أن القرن التاسع عشر آمن بتفوق العرق الأبيض، لأنه كان الشكل الأبيض للتغريب، إلا أننا نستطيع نفي هذه المقولة لأن التفوق الإنساني لا يخص البيض وحدهم، ولكنه يخص شعوباً أخرى مثل اليابانيين على سبيل المثال، وغيرهم ممن حققوا نقلة مهمة في التطور الحضاري والإنساني.. علينا إذاً أن ندرك أن (تعريف الغرب بالعرق الأبيض يختزل تغريب العالم إلى استعباده في سياق المشروع الاستعماري).

 

هل للغرب رسالة فلسفية وأخلاقية وثقافية؟

من غير شك، فعلى الرغم من أن الغرب قد قدّم، رغم تلك الصورة القاتمة، عصر التنوير عبر مفكريه الليبراليين، وفلاسفة القرن الثامن عشر، وقيم حقوق الإنسان والديمقراطية وغيرها من القيم الإنسانية، إلا أن فخاخ الأنا التي تسعى بشتى الوسائل لإحداث تبعية الآخر لتحقيق ذاتها، تقود إلى حق الإبادة الإثنية، وحق السيطرة على العالم.

 

هل يمكن اختزال الغرب باعتباره آلية اقتصادية للسوق؟

بالطبع لا يمكن، لأن هذه الآلية تمثل شكلاً نموذجياً للسعي وراء (الأداء)، وتميل لنشر منطقها إلى الكل الاجتماعي، ومن هنا علينا أن نتأمل ما تعنيه جملة (محو الثقافة والإبادة الاثنية)، فعندما تتدفق ثقافة الأقوى على ثقافة الأضعف، تغدو تلك الثقافة غازية، والثقافة مغزوّة ومهدَّدة في وجودها ذاته، ويمكن اعتبارها ضحية لعدوان حقيقي.

إن من يتأمل واقعنا الحالي المعاصر، وما يحفل به من تمزّقات مرعبة تصدمنا في كل حالاته، بيد أن الخطة الخاصة بوحدة إنسانية جوهرية تقوم على النموذج الغربي، الذي يقوم على إخراج اقتصادي عالمي ضخم، وعلى الرغم من السيطرة الفادحة لهذا التغريب على العالم، وعمله الدائم على محو ثقافة الآخر، وتزكية النموذج الغربي، فإننا نلمح في كثير من المشاهد والأمثلة تعثّراً في هذا النموذج.

 

العدد 1104 - 24/4/2024