لا آفاق لطريق التعصب والتفوق العرقي

يونس صالح:

لا يمكن للتكنولوجيا وحدها أن تصنع السعادة للبشر، وبالمقابل بوسع الثقافة ذات المدلول الإنساني الحضاري أن تزرع فوق كوكبنا الأرضي الحرية والطمأنينة والأمن والسلام.

ولأن الإنسان المعاصر أصبح أكثر إدراكاً لضرورة الاستعاضة عن نسق الرتابة والتوتر والمعاناة بنسق فيه ضوابط الإنصاف والتوافق مع العقل، فقد استيقظت ضمائر مفكري الغرب وهبّت، ولو على استحياء من قبل البعض، بحثاً في أسباب شقاوة الإنسان المعاصر، واستخراج وصفات علاجية، بغية تخليصه من هذا العبث المأسوي الذي تنتجه آلات النظم الرأسمالية، ماضية بالمجتمعات البشرية إلى مصير مجهول، بل وتجرّها إلى حافة الانهيار. إن هذه الصحوة تأتي لتدحض مزاعم العولمة المتطرفة والمتوحشة والظالمة، ولتشخص مرض العصر المتمثل في نعرة الهيمنة عند أشدّ أنواع الثقافات عدوانية وضراوة وأكثرها عنصرية.

لقد وضعت إصبعها على الوباء الحقيقي لمحنة البشرية في المجتمعات المتطورة، بل وأيضاً في المجتمعات النامية، حيث العلم والتكنولوجيا ووسائط الاتصال ووسائل الانفصال والاستغلال والاقتتال والابتذال، بلغت درجات عالية من التطور والتبضّع، وحيث اقتصاداتها قفزت إلى مستوى رفيع من القوة والتنوع.

 

تمرّد المفكرين

ليس من قبيل العبث أن يستصرخ مفكرو الغرب المنشغلون بقيمة الإنسان ضمائر العالم في سبيل إنقاذ الإنسانية من الكارثة، حتى أن أديباً عالمياً كالكاتب الفرنسي إميل زولا (1840-1902) قد كتب يقول في مؤلفه الشهير (إنّي أتّهم).. وذلك في مضمار بحثه عن العدالة والحقيقة: (ليست لدي سوى رغبة واحدة في حياتي، هي أن أرى النور باسم الإنسانية التي عانت.. ولها الحقّ في السعادة).

وقبله بكثير اشتغل الكثير من الفلاسفة والمفكرين بالهمّ الإنساني، ولايزال الكثير منهم الآن يشتغلون على ذلك، انطلاقاً من المعاناة النفسية والفكرية التي يعيشونها في مجتمعاتهم الرأسمالية، وخصوصاً في المجتمع الأمريكي الحديث الذي تسخّر دولته مختلف وسائل القهر والتضليل للهيمنة على العالم، وتدفع بمنظّري الشر لديها، من أمثال صموئيل هنتنغتون الذي يزعم أن العالم هو اليوم ضحية لصراع الحضارات، جاهلاً أو متجاهلاً أن الحضارة ذات قيمة إنسانية واجتماعية، ولها مدلول تقدمي، لا مدلول رجعي.

 

لا وجود للصراع

وبالتالي لا يمكننا أن نتصور وجود حضارات متنافرة فيما بينها، تتصارع أو تتصادم لتلغي إحداها الأخرى، ذلك أن الحضارات جميعها يكمل بعضها البعض الآخر، غاياتها واحدة مشتركة، هي دفع الناس إلى تفعيل التاريخ وتحريكه في الاتجاه النبيل، عن طريق العمل على إشاعة الحريات وتطوير أنظمة العدل والمساواة، وثمرات العلوم فيما بينها، كي تتمكن من توظيف قدراتها ومواهبها المتنوعة لمصالح الأجيال الحالية والقادمة.

 

حنين إلى العصور الظلامية

من المؤكد إذاً أن ثقافة الهيمنة، مرض العصر، تحمل في طيّاتها مضموناً رجعياً في أبعد معانيه، فهي بحق ثقافة رجعية تسلطية تآمرية، للأسباب الآتي ذكرها:

فهي تحن إلى العصور الظلامية، عصور الغابات والافتراس، وهي تنسى من جهة ثانية أن قيامها كان حصيلة تراكم طبيعي لثقافات متعددة أسستها شعوب وشعوب منذ بداية المجتمعات البشرية، وهي كذلك من جهة ثالثة داعية إلى الحروب وإلى الدمار والفناء، وهي رابعاً تتعجل بنهايتها بسعيها إلى بلوغ الذروة على رقاب الناس والشعوب.

 

الثقافات لا تموت

إن الثقافات المزعوم أنها ثقافات الأصغر والأدنى لا يقتصر دورها على مقاومة الفناء في وجه جبروت الثقافات الطامحة إلى الهيمنة، فكل ثقافة تحيط نفسها كمحصلة بديهية بأسباب البقاء وضمانات الخلود. ولا ينبغي أن تدفعنا الجرأة وتسطّح المعرفة إلى الاعتقاد بأن ثمة ثقافات اضمحلت وانقرضت لمجرد أن تكون دولها قد بادت، بعد أن دامت زمناً معيناً.

إن النسيان قد يطوي دولاً وأنظمة ورجالاً، ولا يصير لهم رسم في خريطة أو ذكر في ذاكرة.. ولكن ذلك لا يعني أن منتوجهم الفكري وأثرهم الحضاري لم يتغلغلا كموروث طبيعي في المنتوج الذي تلاه، بل إن هذا المنتوج إنما يخرج بالضرورة من صلب سلفه.

وخلاصة القول، فإن كل ثقافة تحلم بإقصاء ثقافة أخرى هي ثقافة رجعية بكل المقاييس، وإن ثقافة الهيمنة تحمل معاول فتاكة ودموية لا تستثني أحداً، وإن طريق التعصب والعنصرية والتفوق العرقي لن تكون له أية آفاق مستقبلية.

 

العدد 1104 - 24/4/2024