استراتيجية أمريكية استفزازية!

د. صياح فرحان عزام:

اعتاد الرؤساء الأمريكيون أن يصدر كل منهم خلال الأشهر الأولى لوجوده في البيت الأبيض استراتيجية للأمن القومي الأمريكي، تحدد سياسة الولايات المتحدة تجاه الأزمات الدولية (والأصح القول تجاه خلق الأزمات الدولية وإدارتها). لكن الرئيس جو بايدن تأخر في إصدار مثل هذه الاستراتيجية إلى يوم 12 تشرين الأول الجاري، إلا أنه أصدر في شهر آذار الماضي وثيقة استراتيجية مؤقتة حددت أولويات السياسة الخارجية لبلاده، وأهم ما جاء فيها:

  • اعتبار روسيا خطراً كبيراً ومزعزعة للاستقرار في العالم، وفي الوقت نفسه وصفت الصين بأنها المنافس الوحيد وتشكل تحدياً لنظام دولي مستقر. والسؤال: لماذا تأخر إصدار الاستراتيجية الأمريكية الجديدة التي تقع في 48 صفحة، والتي أقر بايدن في مقدمتها بأن النظام الدولي الذي استمر لثلاثة عقود بعد نهاية الحرب الباردة انتهى تماماً؟ لكنه مع ذلك زعم (حاجة العالم إلى قيادة أمريكية كبيرة أكثر من أي وقت مضى)، وأشار إلى أن بلاده في خضم منافسة استراتيجية لتشكيل مستقبل النظام العالمي، وهذا يعني أن الولايات المتحدة الأمريكية، وفي إطار الصراع القائم مع كل من الصين وروسيا، لن تتنازل عن دورها القيادي (حسب تعبيره) في هذا النظام، أي أنها لن تقبل بوجود شركاء آخرين لها، لأنها مازالت تراهن على ما تملك من عناصر القوة لتثبيت ذلك، وهذا ما أشارت إليه الاستراتيجية من خلال محاور ثلاثة هي:
  • 1- الاستثمار في المصادر والأدوات الرئيسية للقوة والنفوذ الأمريكيين،
  • 2- بناء أقوى تحالف ممكن من الدول لتعزيز النفوذ الأمريكي ولتشكيل البيئة الاستراتيجية العالمية،
  • 3- تحديث الجيش الأمريكي وتقويته حتى يكون جاهزاً لعناصر المنافسة.

لقد حددت استراتيجية بايدن الصين باعتبارها المنافس الوحيد لواشنطن في إعادة تشكيل النظام الدولي، فقد قال: (لا يمكن التنافس بنجاح لتشكيل النظام الدولي مالم تكن لدى واشنطن خطة إيجابية لمواجهة التحديات المشتركة.

  • أما بالنسبة لروسيا، فقد اعتبرتها استراتيجية بايدن أنها تشكل تهديداً فورياً للنظام الدولي الحر والمفتوح، وتنتهك القوانين الأساسية للنظام الدولي، كما ظهر في حربها العدوانية ضد أوكرانيا (حسب تعبيره). وأكدت هذه الاستراتيجية أن الولايات المتحدة ستردع وستردّ عند الضرورة على الإجراءات الروسية التي تهدد المصالح الأمريكية الرئيسية، مع التشديد على مواصلة دعم أوكرانيا والدفاع عن كل شبر من أراضي حلف الناتو، ومواصلة بناء الشراكات مع الحلفاء لمنع موسكو من التسبب في مزيد من الضرر للأمن والديمقراطية والمؤسسات الأوربية.

وفي قراءة موضوعية ودقيقة لمضمون هذه الاستراتيجية الأمريكية الجديدة، يتضح أنها (استراتيجية عدوانية استفزازية) تعكس المخطط الأمريكي الرامي إلى التمسك بقيادة النظام الدولي دون أي شريك أو منافس، وأن الولايات المتحدة مازالت ترى نفسها تتسيّد النظام الدولي وتقوده بمفردها، وأنها تخوض صراعاً دائماً ومستمراً مع منافستَيها (روسيا، والصين) بوصفهما (حسب هذه الاستراتيجية) المستبدين اللذين يبذلان جهوداً إضافية لتقويض الديمقراطية، وتصدير نموذج للحكم يتسم بالقمع في الداخل والإكراه في الخارج، وهو تبرير عادة ما تلجأ إليه الولايات المتحدة لتسويغ حروبها العدوانية وتدخلاتها الخارجية في شؤون الدول تحت ذرائع واهية مثل حماية الحرية وحقوق الإنسان.

كل ذلك يشي بصراع مفتوح ومواجهة بلا أفق تقودها واشنطن استناداً إلى منطق القوة والهيمنة.

 

العدد 1105 - 01/5/2024