أسئلةٌ نطرق بها على سندان الألم

إيناس ونوس:

_ وقفت مجهدةً تستند على رخام المطبخ اللَّامع تمسح قطرات ندى التَّعب عن جبينها بيد، بينما اتَّكأت اليد الأخرى على أسفل ظهرها تهدهد الألم علَّه يستكين ويغفو ولو بضع دقائق، ريثما تنهي كلَّ الأعمال التي فرضتها على ذاتها في قائمة جدولها اليومي، كي تختم يومها وقد حقَّقت إنجازها العظيم بأن أنهت كلَّ واجباتها رغم تعبها ومرضها وألمها.

_ جلست أمام مرآتها وأصابعها تبحث بين أدوات المكياج عمَّا تبدأ به لترسم ملامح امرأةٍ سعيدةٍ، لا مبالية، خاليةٍ من الهموم، لا تشبه روحها ولا تتناسب مع قهرها وعوزها استعداداً للذَّهاب إلى الملهى اللَّيلي حيث تعمل هناك عملاً حوَّلها من فراشة الصَّباح والضَّوء إلى أحد خفافيش الظُّلمة والعتمة، تمتهنُ مهنةً لم تقرّر يوماً أن تمتهنها.. لكنَّ الظُّروف المحيطة بها والتي رمت بها وحيدةً تحارب طواحين الموت والذَّلِّ أرغمتها على امتهانها.

_ بكامل أناقتها المعتادة خرجت صباحاً إلى عملها متدثِّرةً بمعطفها من لسعات البرد، تحمل بيدها التي تحتمي بالقفَّازات كيس النِّفايات مرافقها اليومي إلى الحاوية، ومن كثرة ما رافقها بات غيابها غير مألوفٍ لدى أولئك الفتيات الصَّغيرات اللَّواتي يقمن بأعمال التَّنبيش وفرز النِّفايات. استوقفها منظر الفتيات ولباسهن الخفيف فارتعشت، وقالت لإحداهن:

(مانك بردانة؟!)

هزَّتها نظرة الازدراء التي رمقتها بها الطِّفلة قبل أن تجيبها: (لو كان عندي بيت كنت خفت من البرد وغيرو، بس طالما الحاوية بيتي اللي زتوني أهلي فيه ما عاد خاف من شي!).

_ لم يشأ القدر أن يتمِّم أنوثتها الفطرية، فقد مضى على زواجها عقدٌ من الزَّمان ولمَّا تصبح أمَّاً كما كانت تحلم ولا تزال في كلِّ شهرٍ تترقَّب المعجزة ولا تحدث، ما يبدِّد الأمل المتناقص كلّ يوم فيحوِّلها إلى إنسانةٍ تجلد ذاتها كلَّ ليلةٍ بأنَّها امرأة ناقصة كما تصف ذاتها حين تناجي روحها والدُّموع تهطل من عينيها فلا تغسل ألمها ولا تهدِّئ من شعورها بالنَّقص، وبأنَّها لا تشبه الأخريات الكاملات، بالرَّغم من كلِّ محاولات زوجها والمقرَّبين التَّخفيف عنها، خصوصاً أنَّها ليست السَّبب في نزيف جرحها المستمر.

هذه بعضٌ من صور تعنيف المرأة لذاتها، تعيشها غالبيتنا نتيجة التَّربية التي تلقّيناها على مدى قرونٍ وقرونٍ تحمِّل المرأة وزر أيِّ حدثٍ قد يصيب العائلة، والتي باتت في جيناتنا، ومهما حاولنا أن نكون متيقِّظاتٍ كي نخرج من بوتقتها وترسُّباتها إلَّا أنَّنا نعود إليها باللَّاشعور حينما يعترضنا أيُّما موقفٍ في تربيتنا لبناتنا.. وهذا أبشع أنواع العنف الواقع على المرأة، اضطهادها لذاتها، التي كثيراً ما تمَّ العمل على إلغائها، أفلا يكفيها ما تتعرَّض إليه من ظلمٍ واضطهادٍ وتعنيفٍ من الآخرين حتى تزيد من آلامها ألماً إضافياً بيدها وبكامل إرادتها؟؟!

متى يمكننا التَّخلص من العديد من المشاهد اليومية التي تعيشها المرأة، والتي لا تقتصر على مجتمعٍ بعينه وإنَّما نجدها حتى في أرقى المجتمعات التي تتبجَّح بصون حقوق المرأة وحمايتها ودعمها؟!

أسئلةٌ سنبقى نطرقها على سندان الحياة والتَّربية والأفكار المتخلِّفة التي ترى أنّ المرأة هي السَّبب الرئيسيّ لكلِّ مشاكل العالم قاطبةً، علَّ هذه الطَّرَقات تفضي يوماً ما إلى أن يسطع ضوء الشَّمس فتنير أرواحنا وتحرِّرها من قيودٍ فُرضت عليها بغير إرادتها منذ اعتماد النِّظام الأبوي.

العدد 1104 - 24/4/2024