ثقافة التسلّط ومعيقات التجديد في مواجهة التنوير

محمد علي شعبان:

ليس عيباً ولا جريمة أن يصارح الإنسان نفسه، ويعترف بأخطاء ارتكبها في ماضيه، وفي حاضره. هذا الاعتراف يفتح الباب أمامه للتخلّص من وهم تضخّم الذات الذي قد يشعر به الإنسان، مهما كانت درجة معرفته، أو جهله، أو تسلّطه، ويعيد إليه الثقة بنفسه، لأنه لا يمكن إعادتها أو تأكيدها بالوهم.

وهو أكثر العارفين بنقاط الضعف الموجودة في شخصيته، لكنه يأبى المصارحة مع نفسه، خوفاً من انكشاف تجارة الوهم التي حكمتنا كبشر منذ آلاف السنين، ومنعتنا من التطور في العديد من الأصعدة أسوة بالشعوب الأخرى.

كما يفتح الباب أمامه للتخلي عن إيجاد المبررات لأخطاء، قد تدفعه للكذب كي يبررها.

ورغم معرفتنا الدقيقة بمعيقات الاعتراف، التي تقسم إلى قسمين، الأول: المعيقات الذاتية، والثاني: المعيقات الخارجية.

نتوقف عند المعيقات الذاتية، التي تنكسر فيها منظومة الأفكار، والمعتقدات، والتشريعات الخاصة التي تشكلت عبر فترة طويلة من الزمن.

هذه المنظومة جعلت حالة الإنسان النفسية والمعنوية متوازنة، ما دام لم يفكر لمرة واحدة بعدم صحتها، أو عدم صدقيتها، باعتبارها تشكلت خلال فترة طويلة من الزمن. توارثتها الأجيال، باعتبارها مقدّسة ولا يجوز الشكّ فيها ولا في مصدرها، إذ تقف خلفها القوة الخفية المحجوبة عن الرؤيا، وعن السمع. لكن يجب الاعتراف والإقرار بوجودها دون حاجة لإثباتاتها، فهي تقف خلف كل حركة وسكون في هذا الكون، وفي جميع الحقب التاريخية السابقة.

وتستمد الأجيال استمرار وجودها، بمقدار الحفاظ على تلك الأفكار المقدسة، والعصية على النقد.

لقد كان مصدر هذه المنظومة من الأفكار والمعتقدات من أماكن ومراجع مختلفة. أهمها الأسرة التي يتشكل وعيها، كما الأفراد، من التشريعات والأعراف التي تنتجها طبقة اجتماعية مسيطرة بطريقة لا يجوز نقدها أو الشك بصدقية ما تقدمه من أفكار، باعتبار أن الطبقة المسيطرة تستمد قوتها وشرعية وجودها بمقدار حفاظها على تلك الأفكار التي تنسب لشخصيات تاريخية، أعطت لنفسها القدسية كي تحافظ على بقائها المتحكم بشؤون حياة الأفراد والجماعات البشرية. وتقدم أفكاراً، من أجل حماية الأفراد والعائلات في الحياة، وبعد الممات.

تلك الأفكار لا يجوز الاعتراض عليها أو نقاشها، أو رفضها.

فهي تستمد قوتها من منظومة الأفكار والحكايات والقصص التي تؤكد صحتها. لكن هذه الحكايات لن تفتقر للمصداقية فقط. بل ليس لها أية مصداقية وتجعل متلقيها يبحث عن المزيد من سماعها وتناقلها حتى تصبح كأنها حقيقة، باعتبارها تصنع المعجزة وتخترع الحلول وتزرع الخوف والرهبة في نفوس متلقيها، ولا تتعارض مصلحة الطبقات المسيطرة فيما بينها، إذ يوجد في كل مرحلة تاريخية قوى عدوان خارجية تحافظ على تكريس الجهل وتعزيز التسلط والظلم في المجتمعات، لتمنع الأفراد والمجموعات من التفكير والبحث عن أشياء تعيق التسلط وتعيق انتشار الوعي، الذي يرتكز على الحوار والمحاكمة المنطقية للأشياء، وفهم قوانين الطبيعة، عوضاً عن ربط التحولات، والتناقضات، والكوارث، بالأقدار المكتوبة، وبأن إرادة الله هي التي تتحكم بكل شيء. وكأن الإله يمثل قائد شرطة والطبقة المسيطرة دينياً وسياسياً تمثل الشرطة بمختلف مستوياتها، ويقع عليها تنظيم شؤون الناس بعيداً عن رغباتهم وحاجاتهم.

وتتشكل فرقة قليلة، من المتسلطين دينياً ودنيوياً، وصية على البشر، تتحكم بشؤونهم، تحدد الحلال والحرام، وتعاقب وتحاسب من يخالفها أو يختلف معها.

هكذا نشاهد الجزء الأكبر من البشرية، يقع تحت تأثير هذه الأفكار التي تنتج إيديولوجيا خاصة بها، تعمل باتجاهين.

الاتجاه الأول: تقديس أفكارها وتشريعاتها حيثما وجدت.

الاتجاه الثاني: محاربة كل الأفكار التي تتعارض أو تشكّك بأفكارها.

ولم يقف الأمر عند الأفكار، بل يتعداها ليطول الشخصيات المنتجة لها، ومن يتبناها، أو يروّج لها.

هكذا يجد العاقل نفسه متهماً، ومطلوباً، يعيش الغربة في مجتمعه والتناقض في شخصيته التي تتكون بمعطيات معظمها يعيق تشكيلها. وتزداد التحديات أمامه، في غياب الشروط الأساسية للاستمرار، ما دامت حرية الفكر ممنوعة، وحرية التعبير جريمة، وحرية الاعتقاد كفراً.

هكذا تتشكل الإعاقة الحقيقية، تجاه المراجعة والتصويب وإعادة بناء الشخصية بأقل عقد وبأقل خوف.

فكيف يتحقق ذلك حتى نتمكن من الانتقال من واقع اجتماعي مليء بالعقد، والخوف،

تسيطر علينا عقلية الخرافات والاساطير، إلى بنية اجتماعية أقل تعقيداً، وندخل مرحلة المحاكمات العقلية المنطقية، للعديد من التحديات التي تعيق انتقالنا؟

لا شكّ أننا نعيش في ظل احتلال فكري وثقافي، يحمل بين سطور نصوصه تأييد ذاته، ذلك أن المحتل يعرف أن الاحتلال الفكري والثقافي هو أخطر أنواع الاحتلالات على الإطلاق، وأن من يسيطر فكرياً وثقافياً يسيطر عقائدياً.

لذلك نجد قوى عديدة في المجتمعات ترفض الكتاب، وتنبذ الكاتب! وتسعى بكل جهدها لتسفيه الكتّاب وملاحقتهم، إذا لم تتمكن من جعلهم أدوات لخدمتها. وتعمل على خلق بدائل لنشاطات جديدة تشوش على أي نشاط فكري يحفز المواطنين للتنوير، كما تسعى لممارسة الطقوس التي تعيد المجتمعات إلى عقلية القرون الوسطى، وهذه القوى محمية ومحصنة، وليس هنالك من ينتقدها أو يصوّب سلوكها.

 

العدد 1105 - 01/5/2024