حول انهيار السياسة

يونس صالح:

كثير من دول ودويلات العالم الثالث لم يستكمل تماماً حتى الآن الدورة الأولى من دورات تطوره السياسي. لقد بدأت هذه الدورة بالتبعية (المفروضة)، وتطورت إلى الثورة السياسية، ثم إلى الاستقلال السياسي، ومحاولات الاستقلال الاقتصادي، إلى أن دخل التطور مرحلة سكون، ثم بدأ يتراجع ثم يتآكل إلى أن بدأت مرحلة التبعية من جديد.

وككلّ مراحل التاريخ، لم تنشأ مرحلة من مراحل هذه الدورة التي مر بها العالم الثالث من فراغ، بل كانت كل مرحلة نبتاً وحصاداً لبذور غرست في المرحلة التي سبقتها، وحين كان الاستعمار يدرّب أفراداً (محليين) لإدارة المستعمرات أو حماية أمنها الداخلي، لم يكن يعرف أنه ينشئ بهؤلاء الأفراد (صفوةً) ستفجّر وتقود الثورة السياسية ضده، ثم نشبت الثورات السياسية في العالم الثالث، وظهرت على الخريطة عشرات من الدول والدويلات، أكثرها لم يكن يحمل المواصفات الكافية ليشكل دولة مستقلة، وبعضها تدخل الاستعمار المنسحب في إنشائه لاعتبارات تضمن الضعف الدائم لهذه الدول، وتزيد من احتمالات الصراعات المحلية والإقليمية.

وبسبب السرعة في قيام هذه الدول، وبسبب ضخامة المشكلات التي واجهها قادة الثورة السياسية، كانت تصوراتهم (عالمية) الأبعاد. لم يكن التضامن الداخلي في أي دولة كافياً لضمان سلامة استقلالها أو انطلاقها نحو الاستقلال الاقتصادي، وكان من الضروري أن يتم التكتل مع بقية الدول المحررة حديثاً لاكتساب رصيد سياسي دولي يحمي هذا الاستقلال، ويشجع على تعبئة الجماهير لتعويض ما فاتها من رخاء، لكن لم تمضِ أعوامٌ قليلة على نيل الاستقلال، إلا وكشف الاستعمار عن خطط يهدف من تحقيقها إلى استعادة روابط التبعية والاعتماد، وهناك أمثلة كثيرة على ذلك.

لقد اتسمت تلك المرحلة من مراحل التطور السياسي في العالم الثالث بسمة النهوض، كانت الشعوب معبأة والأحلام كبيرة، ثم سكنت الثورة وسقط قادتها، كانت الأحلام أكبر من القدرة على تحقيقها، إذ إنه حين استقرت الأمور بدأت الشعوب تنتبه إلى أن عائد الثورة أقل كثيراً من الوعود البراقة والأحلام الزاهية التي دفعت إلى الثورة ودفعتها. ولم تنجح المحاولات لإقناع الشعوب، بأن تخلف مئات السنين لا يزول في أعوام قليلة، كما لم تنجح المحاولات في عزلها عن مظاهر الاستهلاك والرفاهية التي تعيش فيها الدول الغربية، فلقد انقلبت وسائل الاتصال العصرية من سلاح يتم من خلالها تعبئة الجماهير إلى سلاح آخر معاكس.

لا يمكن إنكار الدور الإيجابي الذي تقوم به عملية تعبئة الجماهير وراء أهداف معينة، فهي أساسية لحماية الاستقلال ومقاومة أي عدوان، وتحويل المسار الاقتصادي لتحقيق التنمية، لكنها تصبح عنصراً سلبياً في بناء الأمم حين يطول أمدها وتتحول إلى أسلوب حكم، وإذا صارت كذلك زال الفاصل الواسع بين الحكم والتحكم، وضاقت حلقة السياسة تدريجياً وأخذت تتركز داخل مؤسسة السلطة فقط.

والنتيجة هي إفقار للقيم السياسية في المجتمع، وفي النهاية انهيار كامل للسياسة، ونموّ النوازع السلطوية، وتصبح مؤسسات الدولة شكلية، ويغيب التنافس السياسي، وإذا كان الزعماء سابقاً يتصلون بالجماهير مباشرة، أصبحت صلتهم بها عبر آلات التصوير، وأصبح هدف الإعلام هو تمجيدهم، وتكون النتيجة خيبة أمل واسعة، وشعور باليأس عند الناس تجاه المستقبل، هذا هو الواقع في الكثير من البلدان النامية، وفي هذا السياق يؤكد العديد من الخبراء في علم الاجتماع، أن توقف انهيار السياسة في البلدان النامية وانتعاشها يتطلب توافر عدد من الشروط أهمها:

  • حد أدنى من القبول العام بالإطار السياسي، وحد أدنى من الشعور العام بالانتماء إلى هذا الإطار، إلا أن هذا الشرط غير متوفر حالياً، بل توجد مؤشرات تدل على أن الاتجاه السائد في كثير من الدول النامية هو خيبة الأمل التي نتجت عن فشل الدولة، كإطار سياسي، في إشباع حاجة الإنسان الأساسية في الأمن وعدم الاغتراب والاطمئنان للمستقبل.
  • وجود إطار سياسي يضمن على الأقل حريات المواطنين وحقوقهم، ويستبعد خطر الحكم الاستبدادي الفردي الذي يتحكم في مقدرات الناس، وهذا الشرط لا يتوافر عند الكثير من الدول النامية أيضاً.

ينتج عن عدم توافر هذه الشروط مجتمعة أو منفردة ظاهرة الفرد، إنسان منفرد يبحث عن هوية أو عن جماعة يشعر بنفسه فيها، وعن زعامة غير سياسية تقوده إلى هدف.. إنسان يخشى المستقبل ويحن إلى الماضي، ويريد حلولاً وطمأنينة تأتيه من قوى لا يدركها عقله. ومن هذا الإنسان المنفرد ومن ركام السياسة قد تبدأ دورة جديدة في دول العالم الثالث.

 

العدد 1104 - 24/4/2024