طبقية التعليم

د. أحمد ديركي:

في عالم أصبح فيه العلم من أساسيات الحياة اليومية، بدأت الأنظمة التعليمية تنشط على أكثر من صعيد لمواكبة كل تطور في هذا المجال للحفاظ على دورها في السوق التعليمية التنافسية.

نعم، حتى التعليم يخضع لقوانين السوق التنافسية، وضمناً الأنظمة التعليمية. فالسوق حالياً يفرض شروطه على العلم ليحدد مجالات تطوره واتجاهاته.

ما دام التعليم خاضعاً بشكل مباشر وغير مباشر لقوانين السوق التنافسية، فهذا يتضمن الأنظمة التعليمية بكل تفرعاتها. وما دام هناك نظام تعليمي ما يعني وجود مؤسسات تعليمية تعمل على تنفيذ قوانين السوق التنافسية.

من خلال هذه التنافسية تختفي الطبقات وصراعاتها في هذا السوق لتأخذ شكل ممارسة (البر والإحسان) وغيرها من الأشكال (التبرعية) باسم حقوق الإنسان وحق التعلم وكل ما يشابه هذه الشعارات الرنانة الخالية المضمون سوى مضمون إخفاء الصراع الطبقي في أنظمة التعليم.

في العالم الثالث، وما دون، وتحديداً في بلادنا العربية ذات الأنظمة التعليمية الاستهلاكية الخاضعة ليس فقط لقوانين السوق التنافسية، بل أيضاً خاضعة لمفهوم التبعية، تصبح الأنظمة التعليمية فيها أكثر سوءاً.

الأنظمة السياسية تتخلى تدريجياً وبشكل متسارع عن رعاية المدارس الرسمية، وكذلك الجامعات الرسمية، خدمة للسوق التنافسية، فتنبت المدارس الخاصة، والجامعات الخاصة، لتقدم خدماتها التعليمية المتوافقة مع سوق العمل التنافسي، والخاضع لمتطلبات السوق العالمية وفقاً لقوانين التبعية ومنهجيتها، وتحديداً في كل ما يتعلق بشكله الاستغلالي الاستهلاكي.

ما دام النظام السياسي شرع الأبواب أمام المؤسسات التعليمية الخاصة وضرب الرسمية عن قصد، فهذا يعني موافقته المسبقة على هذه الجريمة بحق مواطنيه، ليخلق طبقة متسيدة تحتكر العلم، وطبقة فقيرة تتوهم أنها تعلمت وجل مهمتها خدمة الطبقة التي احتكرت التعليم والعلم.

فالمدارس الخاصة، وكذلك الجامعات الخاصة، لا تقدم تعليمها مجاناً، بل تقدمه لمن يملك ثمنه.

بعيداً عن الرسمية منها لأنها مهملة تماماً، تنقسم المؤسسات التعليمية الخاصة إلى فئتين رئيسيتين: واحدة للأغنياء، والأخرى للفقراء. مؤسسات التعليم الخاصة بالأغنياء تقدم تعليمها وتؤهل طلابها لاحتلال المراكز العليا في سوق العمل، بينما المخصصة للفقراء تؤهل طلابها ليكونوا أميين ولا يحصلون سوى على وظائف دونية. فيصبح خريجو المؤسسات الفقيرة مجرد خدم لدى خريجي المؤسسات الغنية.

وهم تخلقه الأنظمة التعليمية الفقيرة والغنية لتخفي الصراع الطبقي في المجتمع، بوهم أنهم جميعاً يقدمون خدمات تعليمية متساوية في ظل غياب التعليم الرسمي، أو الأصح تغييبه.

يدخل طلاب الطبقة الفقيرة إلى مدارس خاصة، تقدم خدماتها التعليمية بأسعار تنافسية وفقاً لمداخيل الطبقة الفقيرة، وتوهم الأهل، الذين هم في الأصل متوهمون، أنها تقدم تعليماً بنوعية تؤهل الطلاب بمنافسة الطلاب الأغنياء. يضاف إلى هذا الوهم وهم آخر، يمثل عامل جذب للأهل المتوهمين، ألا وهو وهم الحفاظ على القيم، والعادات والأخلاق وأهمها (الدين)، لأنهم جميعاً انبثقوا منه.

فيقع الأهل في وهمين: الأول نوعية التعليم، والثاني الحفاظ على (الدين). أما بالنسبة للطلاب فيتشكلون وفقاً لهذين الوهمين من الأهل والمدرسة، فيتوهمون أنهم يحصلون على تعليم جيد وموروثات اجتماعية محافظ عليها، غير مدركين أنهم متوهمون ما يتوهمون.

عند انتهاء الفترة التعليمية يسقط وهم التوهم بالتحصيل العلمي ويتكرس وهم الموروث الثقافي. وقد يكون من أبرز معالم هذه المسألة نسب التسرب المدرسي المرتفعة جداً في المدارس الخاصة المتخصصة بجذب الفقراء.

سقوط وهم التعلم المؤدي، من ضمن أسباب أخرى، إلى نسب مرتفعة من التسرب المدرسي لدى الفقراء يلام عليه مباشرة الطلاب لأنهم فاشلون لا يصلحون للعلم! فتخرج المدرسة من خلال هذا الشعار وكأنها بريئة من الذنب، والنظام السياسي هو أيضاً بريء والأهل بريئون.. الحميع أبرياء إلا الطلاب المتسربين من المدرسة بسب فشلهم ومحدودية عقلهم لأنهم غير صالحين للتعلم.

فيكرس في العقل الجمعي أن أولاد الفقراء فاشلون ليس في مقدورهم التعلم إلا جزءاً يسيراً منهم، وتعم مقولة العلم لا يجني اموال، بل المهنة. وسوق العمل جاهزة لاستقبال أطفال الفقراء لأنهم يتقاضون أجوراً أدنى، والفتيات المنجذبات إلى مفهوم الزوجة التقليدية مستعدات للزواج. فيولد سوق عمل الأطفال ويترعرع بأحضان الطبقة الغنية، كما يولد زواج القاصرات ويترعرع في الموروث الثقافي المنتج من المجتمع والمؤسسات التعليمية الخاصة الجاذبة للفقراء في أحضان الطبقة الفقيرة.

مقولة لا تعرفها المؤسسات التعليمية الخاصة الغنية الجاذبة لأولاد الأغنياء، وتدعي محاربتها، بينما هي في الواقع تكرسها بدعم من الأنظمة السياسية المحلية العالمية.

العدد 1105 - 01/5/2024