نائحات الرُكبان

صفوان داؤد:

أحدثت الأحداث العسكرية المستمرة منذ عام 2011 تغييرات هائلة على المجتمع السوري من حيث الخسائر الآنية والتداعيات المستقبلية. وكانت المجتمعات الهشة في الأرياف وعلى أطراف المدن هي الأكثر تأثراً بنتائج الحرب ونسب النزوح منها هي الأكبر.

في قلب البادية السورية حيث الظروف المناخية هي الأكثر قسوة وجفافاً، وفي نقطة المثلث الحدودي بين سوريا والعراق والأردن، أنشئ مخيم (الركبان) للنازحين السوريين ضمن منطقة أمنية بقطر 55 كيلومتراً، تحت مراقبة (التحالف الدولي ضد تنظيم الدولة). المخيم الذي يُعتبر من أكبر مخيمات النازحين السوريين، أنشئ عام 2014 في ذروة المعارك بين القوى العسكرية المتصارعة ضمن جنوب البلاد ووسطها، واستقر فيه عام 2018 في واحدة من أشد السنوات عنفاً في الحرب نحو 45 ألف نازح بحسب تقرير لمنظمة اليونسف، ونحو 70 ألفاً بحسب وكالة سبوتنيك الروسية، قبل أن ينخفض العدد حالياً إلى نحو 8 آلاف شخص، 80% منهم نساء وأطفال. وحتى هذا الرقم يبدو مهولاً إذ ما قارناه بأعداد اللاجئين المقيمين قسرياً في مناطق أخرى من مخيمات السوريين، حتى أن بعض الدول قد أزالتها كلياً.

على مرّ السنوات الماضية، خرج الآلاف من المخيم هرباً من الأوضاع المعيشية الخانقة، استطاع قسم منهم الوصول إلى الأردن عبر طرق تهريب محفوفة بالمخاطر، قضى فيها العشرات قبل أن يصل آخرون إلى أراضي المملكة، فيما عاد القسم الأكبر ممن خرجوا من المخيم إلى مناطق داخل سورية، معظمهم إلى محافظتي حمص ودرعا، وقدّر عددهم بنحو 18 ألف نازح بحسب تقرير لجهة حكومية روسية، وذلك بعد اتفاقات تسوية أُنجزت برعاية موسكو. يقول بعض العائدين إن الظروف صعبة للغاية في المناطق التي عادوإليها لكنها تبقى أفضل من المخيم حيث كانوا. وكان (المرصد الأورومتوسطي) قد كشف في تقرير نشره هذا العام عن دور غير مباشر للأمم المتحدة في جهود ما يسمّى (دعم المغادرة الطوعية لأهالي الركبان)، وكانت مسؤولة مكتب تنسيق الشؤون الانسانية التابع للأمم المتحدة الخاص بسوريا دانييل مويلان صرّحت لـ(فرانس برس) أن المنظمة: (تسعى لإيجاد حلول مستدامة وآمنة وكريمة لسكان مخيم الركبان). لكن منذ آخر عملية مغادرة طوعية لنازحين من المخيم عام 2019، أوقفت الأمم المتحدة معظم المساعدات المتجهة أليه بحجة أنها بحاجة لموافقة دمشق. هذا العام تدهورت أوضاع السوريين داخل المخيم بشكل كارثي مع نقص حاد في مياه الشرب وبات العطش يمثل خطراً حقيقياً. وكانت كمية المياه الواردة إليه نحو 700 متر مكعب لتنخفض إلى 300 وأحياناً 150 متراً مكعباً بحسب تصريح لمسؤول في منظمة (عالم أفضل للتنمية الاجتماعية) المدعومة من قبل اليونيسف، والمسؤولة عن تأمين المياه للمخيم. وتحت هذا الطارئ، باشرت منظمات محلية بالبحث عن حلول لتأمين المياه للنازحين، ولجؤوا إلى استخراج المياه من آبار كانت مهجورة قريبة بعد إعادة تعميرها. فيما بقي وضع الخدمات الأخرى في المخيم سيئ للغاية، فالخيم/المدرسة مُهترئة وأدوات التعليم معدومة، لا يوجد سوى نقطة طبية واحدة يعمل بها ثلاثة ممرضين، ويشتكي كادر التمريض فيها من شح الأدوية والأدوات الطبية. وقد صرحت النقطة لوكالة (فرانس برس) أنه سُجِّل في الفترة الأخيرة ازدياد نسبة الأطفال الذين يعانون سوء التغذية.

حالياً أوضاع النازحين في المخيم سيئة للغاية، وهي كذلك منذ إغلاق الأردن لحدودها مع سورية منتصف 2016، واعتبارها منطقة عسكرية مغلقة نتيجة مخاوف أمنية من المخيم، والحجة ورود معلومات عن تخفي خلايا نائمة تابعة لتنظيم الدولة الإسلامية ضمن النازحين! وزاد الوضع سوءاً تفشي وباء كوفيد-19 وازدياد نشاط مهربي المخدرات على الحدود بين البلدين، ما دفع الأردن إلى إغلاق حدوده تماماً.

مهما كانت الأسباب في نشوء المخيم وبقائه حتى الآن، فإن النازحين داخل المخيم هم مواطنون سوريون مثلهم في التعامل مع أي مواطن موجود على أراضي الجمهورية العربية السورية. ولابد من حل صريح سريع وواضح، رسمي وشعبي، لهم قبل قدوم فصل الشتاء، ولا يجوز السكوت والتغاضي عن مساعدتهم مهما كانت الاسباب. لكن للأسف، فيما نائحات الركبان يدفعن الموت يوماً جديداً عن ابنائهن، فإن (مثقفينا) يحتفلن أو يحتفلون بعيد ميلاد ذلك الشاعر او تلك الفنانة، وتلهث منظمات المجتمع المدني المحلية وراء البريستيج والنشاطات الاجتماعية العقيمة.

العدد 1105 - 01/5/2024