المستنقع

حسين خليفة:

أرّخ الكاتب الكبير الراحل حنا مينه لسيرته الذاتية في روايتيه (بقايا صور) و(المستنقع)، وقد تحولت الأولى إلى فيلم سينمائي من إحدى تحف السينما السورية بإخراج الراحل نبيل المالح.

لم يكن حنا يروي سيرة شخصية طبعاً، بل كان يروي سيرة طبقة، مجتمع أفقره الإقطاع والتخلف والجهل والاحتلال العثماني الظلامي الطويل.

سأقتطف هذا الوصف المؤلم والجميل لحي (الصاز) أو المستنقع في مدينة إسكندرونة السورية المحتلة من تركيا، الحي الذي نزحت إليه عائلة الطفل حنا بعد تنقلات عدة بين قرى ومدن اللواء السليب:

(أما نحن البشر الذين نسكن هذا المستنقع، فقد اعتبرنا المدينة، أو اعتبرنا أنفسنا نوعاً إضافياً من الحشرات والزواحف، وجيراناً أدنى مرتبة من البهائم التي كانت تعيش على التل القريب حيث تطرح قمامة المدينة، فتنبش فيها الخنازير التي كان يربيها رجل اسمه الخواجه إسكندر، ونزاحمها نحن، رجالاً وتساء وأطفالاً، في النبش بين أكوام القمامة للعثور على ما يصلح للأكل، أو للاستعمال، أو للبيع لأصحاب الروبابيكا والانتفاع بثمنه الزهيد، مثل الزجاجات الفارغة، والملاعق والشوك والسكاكين، والصحون المكسورة التي يمكن تجبيرها، وخرق الثياب التي يمكن الإفادة منها في شيء ما، والخبز اليابس الذي يفضل عن الموائد ويوضع في أكياس ورقية ويرمى في القمامة).

تكاد تشم روائح القمامة وأنت تقرأ وصف أديبنا الكبير لهذا الحي، تسمع ضجيج الأرواح التي ذاقت الذل والظلم والعذاب في بدايات القرن الفائت.

لكن مهلاً!

هل تغيّرت الأحوال كثيراً؟!

أو ليكن سؤالنا هو التالي: هل عاد الزمن السوري إلى نقطته الأولى في حركته الدائرية؟!

الآن هنا، لا داعي لأن تقرأ هذه الرواية الممتعة لتتلمس آلام الإنسان وعذاباته، يكفي أن تمر على المتحلق الجنوبي بجانب حي كشكول القريب جداً لترى مشاهد معادة من حي الصاز، و(كشكول) حي من أحياء حزام البؤس على إطراف عاصمة الصمود دمشق، لترى بعينيك قوافل نابشي القمامة بالعشرات أطفالاً ونساء، بل لقد شاهدتُ مراراً أناساً يأكلون من قلب الحاوية، لا ينتظرون نقل ما يجدونه من بقايا طعام إلى بيوتهم لغسلها أو تنظيفها قليلاً، إن كانت لديهم بيوت طبعاً، بل يتناولون طعامهم الملتقط بين القمامة  وهم على رأس عملهم، بل في قاع عملهم، في الحاوية، يزاحمون الكلاب والقطط، وتشم روائح القمامة المتناثرة على أطراف الطريق الدولي الذي تعبره الشاحنات العابرة من تركيا سابقاً، أو من الداخل السوري حالياً، إلى لبنان والأردن ثم الخليج وبالعكس.

طبعاً هذه الصورة القاتمة ليست مقتصرة على هذا الحي، بل هي صورة عن سورية الآن بعد النصر العظيم!!

ليس تلوثاً بصرياً ما تشاهده، بل هو تلوث روحي.

لنتخيل نفسية هذا الطفل ونشأته وما سيصير إليه وهو يمضي نهاره بين قمامة الآخرين ثم يعود إلى بيته المعتم الملاصق لآلاف البيوت الشبيهة به والتي عبرها أزقة تكاد لا تكفي لعبور سيارة صغيرة، وتصبح الشؤون العائلية مباحة للجميع، ولا رائحة لعرق أخضر، لا وجود لرصيف.

يعود هذا الطفل إلى قبره المسمّى بيتاً ليستمع مع العائلة السعيدة إلى أصوات الدراجات النارية العابرة، وهي حقيقة تستفز كل الحواس بل تدمّرها، وأصوات المولّدات وضجيج المشاجرات، ويشم روائح المجارير والدخان الذي تنفثه الدراجات و(الطرطيرات) وسيارات السوزوكي التي تبيع الماء والخضروات والأثاث المستعمل أو (المعفش)، وتشتري الخبز اليابس أو القطع البلاستيكية المكسورة والزائدة عن الحاجة.

ثم يأتيك مراهق مطروب يرفع صوت (البفلات) إلى أقصاها وهو يستمع إلى سارية تغني أغانيها الهادئة، أو ريم السواس التي درجت أغانيها أخيراً أكثر من ذي قبل بعد (طوشة) نقابة الفنانين معها ثم المصالحة، وهي الآن على كل لسان (أكبر غلطة بحياتي) حتى بتنا نرددها باللاشعور نتيجة تكرار سماعها في الشارع والسرفيس والبيت أيضاً.

لنتخيّل ما سيكون عليه هذا الولد الذي يلتقط أعقاب السجائر بعد أن يرميها العابرون ويدخنها بشراهة!! عدا دخوله المتوقع بسهولة في عصابات السرقة والمخدرات التي أصبحت شبه علنية.

أوليس مستنقعاً كامل الأوصاف؟!

هل نظلم بلادنا إن قلنا إنها أصبحت مكاناً غير صالح للعيش؟!

هذا التلوّث الروحي سيوصل مجتمعاتنا إلى الانقراض بتسارع مخيف إن لم تقم الجهات المعنية الغائبة بعلاج غير أمني، علاج لا يعتمد جمع هؤلاء واقتيادهم إلى مراكز تأخذ منهم المعلوم ليعودوا إلى ممارسة المهنة، بل بمعالجة الأسباب التي حولت المدن إلى مستنقعات، والقرى إلى قفر.

الخروج من هذا الوضع يتطلّب خططاً جادّة من هيئات منتخبة انتخاباً حقيقياً وتحت مساءلة دائمة من الناخبين، وهذا بعيد المنال في ظروف تكرار التجربة ذاتها كل مرة وصم الآذان عن أي إصلاح سياسي اقتصادي، وتوقف الحوار بشكل شبه كامل بين القوى السياسية المختلفة كطريق وحيد لوضع البلاد على طريق حل يفضي إلى سورية ديمقراطية تعددية علمانية تتيح المجال لقوى المجتمع الحية والحقيقية للتعبير عن نفسها واستلام زمام أمورها باتجاه بناء مجتمع جديد خالٍ من هذا البؤس والذل والضجيج والتلوّث السمعي والبصري والروحي.

إنه طريق شائك وطويل.. إنه حلم.. مجرّد حلم!

العدد 1105 - 01/5/2024