المثقف حالياً

أحمد ديركي:

يقال إن تاريخ البشرية بدأ مع بداية الكتابة، وما قبل اكتشاف الكتابة مرحلة يقال عنها مرحلة ما قبل التاريخ.

ما قبل تاريخ البشرية أو ما بعدها الأمر ليس هنا، بل المسألة تكمن في مفهوم (المعرفة) ومقدرة هذا المفهوم على تشكيل (نخبة) في المجتمعات الطبقية تعرف باسم (المثقفين). فمن هم هؤلاء (النخبة)؟ وهل هم فعلاً موجودون؟

أسئلة تندر مقاربتها في العالم العربي لأسباب متعددة متعلقة بمدى تطور إنتاجه وتقسيم العمل وطبيعة أنظمته السياسية.

قد يكون واحداً من أبرز أسباب إهمال مقاربة مفهوم (المثقف) في العالم العربي غيابُ الأحزاب السياسية بالمفهوم الحديث للكلمة. نعم، هناك العديد والعديد من الأحزاب السياسية، ولكن هل هي فعلاً أحزاب بالمعنى الدقيق للكلمة، أم هي مجرد (جماعات) عصبية، بالمعنى الخلدوني، بعضها معارض للسلطة طامحاً بالوصول إليها من دون أن يحمل مشروعاً تغييرياً، وبعضها (مدجن) متوافق مع البعض الآخر المؤيد للسلطة و(المطبّل والمزمّر) عند كل خطوة يقوم بها النظام السياسي.

من ناحية أخرى كل الأحزاب السياسية الموجودة في العالم العربي يوجد فيها (قسم) له علاقة بمسألة (التثقيف) الحزبي، وهنا بيت القصيد. والسلطة لديها طبعاً هذه الفئة أيضاً.

من كلمة (تثقيف) تشتقّ كلمة (مثقف)، وكلمة مثقف مصطلح حديث في اللغة العربية، ويقابلها كلمة مفكر أو أهل قلم، فما عمل أو ما دور هذا القسم في الحزب السياسي؟

في الواقع لا شيء سوى التبرير والتعليل لأفعال السلطة، إن كان الحزب موالياً، أو تحت جناح السلطة ولو كان معارضاً لها، أو مهاجمة السلطة، إن كان معارضاً، من دون الاعتماد على أي فكر علمي.

ما دام يمكن تسميتهم بأهل القلم، فهذا يعني ارتباطهم بالكتابة بشكل وثيق والكتابة تستلزم معرفة مسبقة بقواعدها قبل البدء بها، وهنا نعود إلى مسألة المعرفة. أي على المثقف أن يحمل معرفة يترجمها من خلال كتاباته. لكن كل البشر يحملون معرفة في حقل ما.

معرفة (المثقف) لا تختلف عن معرفة بقية البشر، فهي معرفة مشتركة لكن ما يميزها عن معرفة بقية البشر، في الوقت الراهن، فعل المأسسة، وتحديداً مأسسة التعليم المنتجة للمثقف.

التعليم ما قبل قيام الدولة بالمفهوم الحديث كان غير خاضع إلى حد ما لسلطة النظام السياسي، ولم يتحول إلى مؤسسة، ومع نشوء الدولة خضع لها بشكل كلي وأصبح مؤسسة. من خلال مأسسة التعليم، وتحديداً الأكاديمي تمأسس المثقف وأصبح يشكل جزءاً من نتاجها يحمل جزءاً كبير من فكرها. فعلى سبيل المثال لتكون محامياً، أو صحافياً أو مؤرخاً أو… عليك أن تمر بكل مراحل المؤسسة التعليمية وتخضع لفكرها المتوافق مع المشرف على المؤسسة التعليمية، لتصبح صاحب أحد هذه المهن.

أي إن المثقف حالياً لا يمكن أن يكون مثقفاً ما لم يتمأسس ضمن إحدى المهن، فيتحول بهذا إلى (بروليتاري) مشوه الوعي الطبقي مهمته الدفاع عن مصالح الطبقة المنتمي إليها. فيشكل المثقفون في حقل معرفي ما نخبة (متجانسة) تدخل سوق العمل وتبدأ بالدفاع عن الطبقة المشغلة لها. فمثلاً مهمة المحامي حماية القانون الذي وضعه النظام السياسي وإن كان هذا القانون طبقيّ الطابع! وقد تكون رواية (الجريمة والعقاب) من أبرز الأدلة على طبقية القانون.

هنا تكمن مشكلة المثقف، وتحديداً في الأحزاب الشيوعية، ومسألة التثقيف. فالمثقف عليه أن لا يشكل نخبة وعليه أن يكون مدافعاً وحاملاً لأفكار الطبقة العمالية الثورية، فهل هو كذلك؟ يبدو أن (مثقفي) الأحزاب الشيوعية يمثلون نخبة داخل أحزابهم. فهل على مثقفي اليسار بعامة أن يعيدوا قراءة دورهم في أحزابهم قبل قراءة دورهم في مجتمعاتهم؟ كما أن فعل مثقفي اليسار بعامة، والأحزاب الشيوعية بخاصة، يبدو قد انقرض لقلة إنتاج مثقفيه من كتابات ودراسات بعيداً عن مقال نشر هنا، أو محاضرة ألقيت هناك. فمن المتعارف عليه أن المقال الصحفي مجرد (أدب سطحي)، وإن لم يكن أدباً سطحياً فأين المجلات اليسارية المتخصصة؟ انقرضت. أين مفكرو اليسار؟ انقرضوا. أين مفكرو الاحزاب الشيوعية؟ انقرضوا. ومن دلائل الانقراض عدم وجود أبحاث جدية ودراسات جدية أنتجوها منذ فترة طويلة! الرجاء عدم التحجج بالمسائل المادية والظروف! يبدو أن مثقفي اليسار قد تمأسسوا!

العدد 1104 - 24/4/2024