نحو برجزة الثّقافة!

 عبّاس حيروقة:

قد يبدو العنوان (نحو برجزة الثّقافة) غريباً، لا سيّما أن الأمر متعلق بالثّقافة، التي من البداهة أن تكون متاحة للجميع لأنّها هي منتج البشرية الأهم والأرقى، ولكن إن قلنا: نحو برجزة التّعليم مثلاً سيكون الأمر أقل غرابة، بل هذا ما ألفته البشرية في غير بقعة جغرافية على هذه الأرض. ولكيلا نذهب بعيداً نقول إن التّعليم في سورية في مرحلة ما كان متاحاً لطبقة ما من طبقات مجتمعنا السّوري، ونخشى في ما نخشاه أن نعود إلى تلك المرحلة بفعل ما نشهده من غلاء معيشة غير مسبوق وفوضى لم تشهدها سوريّتنا من قبل.

وبالعودة إلى العنوان أقول: ثمة قرارات يتخذها السّياسي تحت ذرائع وحجج واهية، الهدف منها تكريس التّبعية والحطّ من الثّقافي ودوره في إعادة البناء الحضاري الإنساني. وبنظرة سريعة إلى ما ترصده الحكومات العربية من ميزانيّاتها للثّقافة والتّعليم مقارنة بما ترصده أصغر دولة أوربيّة لوزاراتها تلك، يدرك إلى أيّ اتجاهات نحن نسير، لا سيّما إذا حاولنا أو تجرأنا واطلعنا على ما ترصده حكوماتنا العربيّة من ميزانيّة لوزارات الحرب والدفاع.

أسوق هذه المقدمة الطّويلة نسبياً للحديث عمّا درجت عليه وزارة الثّقافة في أكثر الدّول العربيّة حين تنظيم مهرجاناتها الثّقافية هنا وهناك، لا سيّما الشّعرية منها، إذ عملت على إلزام الأديب والشّاعر المدعو للمشاركة بتحمّل تكاليف السّفر (ذهاباً وإياباً)، أما الإقامة فهي على حساب الجهة الداعية.

وصلتني – كما وصلني غير مرة  – دعوة للمشاركة في مهرجان شعري عربي شريطة تحمّل تكلفة السّفر، وحين السّؤال عن المبلغ تبيّن أن المبلغ يقارب مليوناً ونصف المليون ليرة سورية على أقل تقدير.

والسّؤال الذي يطرح نفسه: من يا ترى من شعراء اليوم يملك هذا المبلغ؟ وإن استطاع تأمينه هل من الممكن أن يعتبر مشاركته في مهرجان شعري أولويّة وسط أسئلة الحياة الصّعبة حد الاستحالة؟؟

وبنظرة أيضاً ولو سريعة على أهم شعراء سورية الكبار وحتى الشّعراء من الشّباب الذين تبلورت تجربتهم سندرك أن هاجسهم الأكثر أهميّة والأكبر هو تأمين الرّغيف وزجاجة الدّواء لا أكثر؟!

حقيقة إنّ سياسة كهذه تساهم إلى حد بعيد في برجزة الثّقافة.. تساهم في إقصاء الأسماء الشّعرية الحقيقية عن المشاركة، وإفساح المجال أمام من يكنزون الذّهب والفضّة وأشياء أخرى.. لننظر إلى من يمثلون سوريّة في المهرجانات الشّعرية العربيّة وينتقلون من هذا المهرجان إلى ذاك، حينئذٍ سنعرف آليّة توجيه الدّعوات والمقومات التي يجب توافرها وتوفرها للمشاركة.

هذا لا يعني أن كل من شارك ويشارك ليس بشاعر، ولكن أقول قرارات كهذه فيها ما فيها من تسطيح للفعل الثّقافي ودوره الحضاري في التّأسيس لمجتمع عربي أكثر انفتاحاً على الخير والمحبة والجمال والسّلام.

العدد 1105 - 01/5/2024