على أمل الاستكمال

د.أحمد ديركي:

خلال تجوالي في (دار الفارابي) بحثاً عن آخر اصداراتهم لشراء كتاب أو كتابين من ضمن اهتماماتي، وطبعاً بما يتوافق مع مستوى دخلي، في ظل الانهيار الاقتصادي والسياسي الذي يشهده لبنان، وكذلك بعض بلدان العالم العربي، عثرت على كتاب من تأليف سمير أمين. ما من حاجة للتعريف بسمير أمين لكل قارىء يهتم بمجريات أحداث العالم على المسوى الفكري، لا الخبري. كتاب من الحجم الصغير، ولكن ما لتفت انتباهي فيه العنوان، فالعنوان (مئتا عام على ميلاد كارل ماركس).

من المتعارف عليه الاحتفال بذكرى (مئوية) شخص أمر مقبول إن لم يكن هذا الشخص مؤسساً لفكر ديني، مثل الأنبياء. فالأديان تحتفل بمؤسّسيها (سنوياً)، كي تحافظ على فكر مؤسسيها وتحاول (تدجين) تطورات المجتمعات البشرية مع الفكر القدسي لا العكس.

أما بالنسبة لمؤسسي فكر علمي، غالباً لا يحتفل بذكراهم إلا لفترة زمنية وجيزة من الزمن بعد رحيلهم. فعلى سبيل المثال كم مرة يحتفل بذكرى رحيل أفلاطون؟ طبعاً الحديث يخص العالم العربي، كم مرة يحتفل بذكرى رحيل إسحاق نيوتن؟ كم من مرة يحتفل بذكرى رحيل تشارلز داروين؟ واللائحة تطول…

طبعاً الاحتفال بالذكرى لا يعني (اجترار) ما مضى، ولا خطباً رنانة شعبوية لا تضيف شيئاً إلى فكر من رحل أو لا تبين مدى علاقة فكر المحتفل بذكراه بعالمنا اليوم. وإن كان الاحتفال مجرد (اجترار) ما مضى، أو مجرد خطابات رنانة شعبوية فما من حاجة للاحتفال بالذكرى. فكل ما يحدث في (احتفاليات) كهذه حضور وتصفيق، ثم المغادرة وانتهى الموضوع!

ليكتب أمين حول فكر ماركس بعد مئتي سنة من رحيله فهذا يعني أن فكر ماركس، وصديقه انجلز، ما زال راهناً، وإلا ما كان هناك من حاجة للكتابة عنه.

طبعاً الكتاب رغم صغر حجمه إلا أنه يحتاج إلى الكثير من النقاش والبحث، لذا لن ندخل في كل ما ورد فيه آملين ممن يقرأ استكمال ما ورد هنا.

ينطلق أمين من قاعدة مفادها: (… قد طور ماركس، انطلاقاً من (البيان الشيوعي) (مع انجلز) إلى أواخر كتاباته، رؤية للشيوعية بصفتها مرحلة عليا في الحضارة الإنسانية، نتاج الشروط اللازمة لإنجازها، وذلك خلال حقبة قصيرة من ازدهار الرأسمالية.) (ص. 9)

أي أن فكر ماركس، وصديقه إنجلز، بدأ بـ(النضوج) منذ كتابة (البيان) وما كتب قبله كان مرحلة فكرية مختلفة عما هي عليه ما بعد كتابة (البيان). وهذا أمر صحيح، فاعتماداً على منهجية الفكر الماركسي، فقد كان ماركس ينتمي إلى مجموعة (الهيغليين الشباب) قبل كتابة (البيان). ومنذ (البيان)، وفقاً لأمين، وضع ماركس، وصديقه، بدايات أسسه الفكرية المناقضة للفكر الهيغلي.

وقد يكون امين أصاب في مسألة من يريد قراءة ماركس عليه أن يبدأ من (البيان) وما يليه، لا مما كتبه ما قبل (البيان).

إلا أن ما فات أمين أن ماركس، طبعاً وصديقه، هو أن ماركس بدأ بوضع أسسه الفكرية ما قبل (البيان)، وإن كان (البيان) من أشهر بداياته. فبعد انفصاله فكرياً عن (الهيغليين الشباب) بدأ بكتابه، غير المنتهي، (الإيديولوجيا الالمانية) ووضع فيه الحجر الأساس لفكره وفكر صديقه.

فمن يقرأ (البيان) لن يفهم مغزاه الحقيقي ما لم يقرأ (الإيديولوجيا الالمانية). ليستكمل من بعدهما أسس البناء الفكري عند ماركس، ولمعرفة لماذا الشيوعية (مرحلة عليا في الحضارة الإنسانية). وكيفية الوصول إلى هذه المرحلة وكيف لها أن تكون (نتاج جمع الشروط اللازمة لإنجازها)، أي أن الشيوعية، وإن مثلت (مرحلة عليا من الحضارة الإنسانية) فلن تهبط من السماء على الجنس البشري ما لم يقم الجنس البشري بما يجب عليه للوصول إليها!

الأمر الآخر اللافت للنظر أن أمين يصوّر حياة الرأسمالية (قصيرة)، فهو يقول: (… ذلك خلال حقبة قصيرة من ازدهار الرأسمالية…) فهل فعلاً حقبتها (قصيرة)؟ نعم قصيرة في حال مقارنتها بالحقبات السابقة والمراحل التاريخية السابق لأنماط الإنتاج، أو مقارنتها بالمتوسط الحالي لعمر الإنسان في البلدان الصناعية المتطورة. فالمهم هنا الانتباه إلى كلمة (ازدهار) فالازدهار يمثل فترة زمنية محددة ضمن الطول الكلي للحقبة. فالرأسمالية يمتد تاريخها إلى فترة ما قبل ازدهارها، وبالتأكيد سوف تنهار ما بعد فترة ازدهارها. وبهذا فالازدهار مجرد فترة وسطية ما بين التأسيس والموت. طبعاً إضافة إلى فترات فرعية أخرى ما بين التأسيس والموت.

ما هذا إلا بداية دعوة إلى التفكر عند قراءة ماركس وصديقه وتحديد المصطلحات المستخدمة. كما أن راهنية فكرة ما زالت قائمة ما دام هناك نمط إنتاج رأسمالي قائم. وعند انتفاء هذا النمط فهل يبقى لفكر ماركس وصديقه راهنية في النمط القادم؟ لا إجابة ولا أعتقد هذا لأن ماركس وصديقه وصفا تلك المرحلة بخطوطها العريضة لا بتفاصيلها.

كانت هذه بعض الملاحظات الأولية للفقرة الأولى من الكتاب وطبعاً هناك المزيد والمزيد ليقال بانتظار من يستكمل ما بدأ هنا.

العدد 1105 - 01/5/2024