السويد.. تغييرات بنيوية نحو الخلف

طلال الإمام_ السويد:

كانت السويد حتى تسعينيات القرن الماضي قبل أن تدخل الاتحاد الأوربي تسمّى بلد الرفاهية الزائدة، يتمتع سكانها بأعلى مستوى معيشة في العالم وبرعاية اجتماعية، صحية، هي الأفضل في العالم عكس معظم الدول الأوربية الأخرى. حافظت السويد حتى الثمانينات على معدل منخفض من البطالة يتراوح بين 2 ٪ و 3 ٪ من قوة العمل. كما كان الدولار يساوي 4 إلى 5 كرونات سويدية. عاش مواطنوها برخاء قل نظيره، فهم من أكثر شعوب البلدان الأوربية سياحة. تحدث العديد من الاقتصاديين والسياسيين عن النموذج السويدي كمثال للضمانات والرفاهية.

جاءت أعوام التسعينات حاملة معها تغييرات جيوسياسية واقتصادية عالمية: انهار الاتحاد السوفيتي ومنظومة البلدان الاشتراكية، حل حلف وارسو، وبدأ مع تلك التغييرات الترويج لمقولات: نهاية العالم، الانتصار النهائي للرأسمالية وفرض سياسة الليبرالية الجديدة بالعصا أو الجزرة، ترافق ذلك مع تغوّل رأس المال الإمبريالي. وبالنتيجة سيطر على العالم قطب واحد حاول فرض نموذجه وثقافته على الشعوب بمختلف الوسائل: الحروب (يوغسلافيا، وأفغانستان، والعراق)، افتعال أزمات وصراعات محلية وإقليمية وتأجيجها على أسس دينية، طائفية، أو إثنية. مع دعم مجموعات التطرف الديني: الإخوان المسلمين، القاعدة، وداعش ومثيلاتها تحت ما يسمى الربيع العربي (سورية، اليمن، ليبيا).

كيف انعكست تلك التحولات على السويد؟

بدأت السويد منذ تسعينات القرن الماضي تفقد شيئاً فشيئاً وجهها المستقل الحيادي إلى حد كبير مع بدء السير في طريق التطور النيوليبرالي والخصخصة، ترافق ذلك مع غسيل دماغ ثقافي وإيديولوجي ممنهج للمجتمع يبشر ويروج للثقافة الأمريكية الاستهلاكية.

مع انضمامها للاتحاد الأوربي عام 1995 فقدت السويد قرارها السيادي في السياسة الخارجية، كما بدأت تتراجع او تتآكل المنجزات التي حققها السويديون منذ الحرب العالمية الثانية في المجالات الاقتصادية، الاجتماعية، الصحية وحتى الديموقراطية.

يتجلى هذا التراجع أكثر فأكثر في الفترة الأخيرة منذ الحرب في أوكرانيا، وانخراط السويد في نزاع لا ناقة لها فيه ولا جمل. إذ بدأت الهرولة نحو الانضمام للناتو بعد عملية تهيئة للرأي العام عبر شيطنة روسيا، والصين، وكل من يعادي السياسة الأمريكية. التراجع ملموس أكثر فأكثر بإلقاء نظرة على تصريحات السياسيين والإجراءات التي يتخذونها وعلى الوضع العام المتدهور في السويد محاولين فيها تماما كما الكثير من حكومات العالم الثالث وضع الأسباب على عامل خارجي ومطالبين المواطن بشدّ الأحزمة (ملاحظة هامة: أنا اقارن وضع السويد الآن بوضع السويد منذ ما قبل تسعينات القرن الماضي، وليس مقارنة وضع السويد مع أية دولة في أوربا، أو آسيا أو إفريقيا). يبرز التراجع على سبيل المثال في:

* ارتفاع نسبة البطالة من 2—3 % في الثمانينات كما ذكرنا سابقاً إلى أكثر من 8% الآن وتتصاعد.

* انهيار قيمة الكرون السويدي (الدولار يساوي الآن أكثر من عشرة كرونات سويدية).

* تراجع مستوى خدمات القطاع الصحي.

* ارتفاع معدلات الجريمة.

* تنامي النزعات العنصرية ومعاداة الأجانب في المجتمع.

* ارتفاع تكاليف المعيشة والتضخم اذ ارتفعت أسعار البيوت وإيجارها، والنقل، والطعام والثياب بنسبة حوالي 25% بينما لم تزدد الأجور أكثر من 3%

* عسكرة الاقتصاد عبر عزم الحكومة فرض مزيد من الضرائب من أجل توفير 2%من الناتج المحلي وإنفاقه على متطلبات الإنفاق العسكري وهو المستوى المطلوب لدخول حلف الناتو. هذا عدا ما يدفع لصندوق الاتحاد الأوربي.

* قررت اللجنة القانونية المختصة في البرلمان السويدي تقديم مقترحات لوضع عقوبات مشددة لكل من يقوم بقطع الطرق بغرض التظاهر والاحتجاج وغيره من التصرفات التي من شأنها أن تعرقل حركة المرور وتنشر الفوضى في السويد وتهدد المجتمع. (تقييد حرية التظاهر تحت حجج الحفاظ على الأمن الاجتماعي (كذا).

* بدءاً من شهر آب (أغسطس) وضعت شروط وقيود على من يريد شراء شريحة هاتف نقال بحيث يجب عليه ملء استمارة فيها معلومات شخصية.

* تدرس الحكومة اقتراحاً بجعل التظاهر لصالح حزب العمال الكردستاني أو المشاركة في أي من نشاطاته واجتماعاته جريمة جنائية (المعروف أن السويد تدعم منذ عشرات السنين نشاطات حزب العمال وتمده بمختلف أشكال الدعم، لكن هذا المقترح هو تنازل لأردوغان من أجل ضمان موافقته على انضمام السويد للناتو …).

هذه بعض المؤشرات التي تجعلنا نطرح السؤال التالي: هل ودعت السويد مجتمع الرفاهية الزائدة تنفيذاً لأجندات الناتو وسياسة اللبرلة؟

اللافت أن تصريحات السياسيين السويديين وقراراتهم تشير إلى تخبط ينعكس على تدهور الوضع المعاشي للناس وهو ما يشعر به غالبية السكان، الأمر الذي يفسح المجال لسؤال هام: من يحكم السويد فعلاً؟ عوضاً عن اتخاذ إجراءات ملموسة لوقف هذا التدهور لصالح الناس، تحاول الحكومة وضع اللائمة على عامل خارجي، كمثال على ذلك تصريح لرئيسة الوزراء تقول فيه: (إن ارتفاع الأسعار والتضخم في السويد هو بسبب بوتين).

نعتقد ان تراجع نظام مجتمع الرفاهية الزائدة السويدي أو تآكله أو انتهاء صلاحيته، هو مؤشر آخر على أن النظام الأوربي الذي كان قائماً بعد الحرب العالمية الثانية ونظام القطب الواحد الذي برز في تسعينات القرن الماضي فقدا مبررات وجودهما. عالم جديد متعدد الأقطاب يولد ببطء وألم لكن يشق طريقه بعزيمة، وعالم أحادي القطب يأفل نجمه وتزداد عربدته ومازال يشكل خطرا على السلم العالمي. لم تعد البشرية تحتمل سلوك أوربا العجوز التي تحاول التصابي. نعم، هي مازالت تملك أوراق قوة لكنها دخلت مرحلة الموت السريري.

العدد 1105 - 01/5/2024