تأثير التفسيرات البيولوجية على الأدوار الجندرية

 عهد بيرقدار:

منذ تطور الصناعة وتقدم الاقتصاد بدأت مجتمعات كثيرة تنظر إلى مقدرة المرأة على الحمل والإنجاب والإرضاع بوصفها نقطة ضعف واختلاف مهمة تجعلها تابعة، وفي مرتبة ثانية بعد الرجل الذي يقوم بالمهام الصعبة ولا يُعيقه الحمل وتبِعاته. لكن مع تقدم الزمن وتطور التقنيات العلمية فُهم دور كل من الأنثى والذكر في الإنجاب، وتم التأكيد على أهمية الرجل بكونه المسؤول بيولوجيا عن تحديد الجنس في محاولة لتأكيد تفوق الرجال على النساء ولإثبات أنَّ حتمية الاختلافات البيولوجية لكل من الرجل والمرأة أمر علمي ثابت ينبغي أن يُنظر إليه بوصفه قوة ودعم لموقع الرجل في الأسرة والمجتمع.

وهكذا سعى أنصار هذه الحتمية البيولوجية لتعزيز أدوار اجتماعية مختلفة لكل من الرجل والمرأة اعتماداً على اختلاف جنسيهما. معتمدين على الاختلافات البيولوجية الطبيعية وساعين لإنشاء دراسات علمية مزعومة حول المقدرة المختلفة لكل من الرجل المرأة عقلياً وإدارياً وغيرها. حينئذٍ بدأتْ دراسات الجندر بالسعي لإثبات عدم منطقية هذه التعزيزات البيولوجية المنحازة أبوياً والربط بين الجنس البيولوجي للأفراد وأدوارهم الاجتماعية المفروضة. ذلك أن الهيمنة الذكورية سعت لتعزيز الحتمية البيولوجية التي افترضت منطقية الاختلافات الاجتماعية وزيادة تعقيدها في سبيل تحقيق مصالح سلطوية أبوية تَفرض مع الزمن قيوداً وتصنيفات قاسية على جميع الأفراد، ويجرم ويعاقب كل من يحاول أن يسبح بعيداً عن التيار وينأى بنفسه عن هذه التصنيفات الاجتماعية المزعومة.

وهكذا أصبح من الصعب التحدث عن أفكار جديدة تتعارض مع الخط العريض للتفكير المقبول اجتماعياً. فقد اعتادَ البشر على العيش والتفكير بطريقة معينة، وعندما تُقدَّم أفكار جديدة يخشى الكثير من الناس تلك الأفكار لأنهم يرون أنها تغيير عن مجرى الحياة وتغيير عن المفاهيم (الطبيعية) التي نشؤوا عليها. هذا الأمر شائك في كثير من المجالات الدينية والقومية وغيرها، لكنه يبلغ أقصى تعقيداته عندما يتعلق بالجنس. فلطالما كان للاختلافات البيولوجية بين الذكر والأنثى الدور الأكبر في رسم توقعات لأدوار كل من الجنسين وفرضها عليهم.

يناقش كتاب ريتشاردسون (الجنس نفسه) مفهوم الحتمية البيولوجية التي ظلت البشرية عالقة فيها لقرون. يوضح الكتاب أن اكتشاف الكروموسومات (واي، إكس) مرَّ بمراحلٍ علمية عديدة ارتبطت بالتحليل الثقافي لمفهوم الذكورة والأنوثة. في بداية اكتشاف الكروموسومات، لم يحدد العِلم وظيفتها كجينات جنسية، لكنَّ التحيزات المعرفية للباحثين في هذا المجال جعلتهم يسعون لقرون لإثبات أن الكروموسومات المسؤولة عن التكوين الجنسي. هذا السعي لإثبات الاختلاف أثّرَ كثيراً على الواقع الحياتي والمجتمعي لكل من الجنسين خاصة مع هيمنة عقلية التفوق الذكوري، ذلك أنَّ التحيز المعرفي والثقافي عند الباحث يجعله يمزج معرفته الذاتية بنتائج بحثه ويعميه عن البحث الموضوعي وهذا تبعاً لنظرية المعرفة الفلسفية. إذ إنَّ للمعرفة المجتمعية المتراكمة في اللاوعي عند الأفراد أثراً كبيراً على تفسيرهم للحقائق التي يختبرونها. ولهذا فإنَّ زيادة الوعي بأهمية التفكير المنهجي العلمي والانفصال عن المعرفة المجتمعية والثقافية المتراكمة في العقل الباطن أثره الكبير في بناء معرفة علمية موضوعية بعيدة عن التحيزات المجتمعية.

هكذا ومع مرور الوقت وزيادة تأكيد الفروقات البيولوجية وأثرها على عقول وأجساد كل من الجنسين أصبحَ التمييز البيولوجي بين الذكر والأنثى هو المبدأ والمرجع الأول لتبرير عدم المساواة المجتمعية بين النساء والرجال في الحصول على الحقوق او حتى في اختلاف نمط الحياة المفروض على كل منهما. وأصبحت ممارسات التمييز الجنسي تلك أمراً واقعياً وغير مُدرك ويمارس باللاوعي عند الكثيرين عن طريق إعادة إنتاج الأفكار التي اعتقدَ بها مفسرو الاختلافات الجندرية.  وأصبحت تلك الاختلافات متداخلة في أدقّ وأصغر تفاصيل حياتنا إلى أن باتت جزءاً من كياننا لا ندرك عمقه ولا تأثيره علينا. وأصبحنا نميز بين اعتقادات وأفعال وحركات وألوان كل من الذكور والإناث بناءً على اختلافهم البيولوجي. حتى تحول الجنس البيولوجي إلى جنس اجتماعي (جندر) وأصبح طبيعياً في حياتنا مثلما الماء للأسماك. كما أصبح الدور الطبيعي للمرأة هو أن تكون أمّاً وأن تسعى طيلة حياتها لكي تحقق تلك الطبيعة البيولوجية التي فُرضتْ عليها اجتماعياً. ابتداءً من أفضلية أن تتزوج لتكوين أسرة ودورها الأسمى في الحياة (الأمومة) وإن لم يكن فستُلقب طيلة حياتها بالعاقر كوصمٍ اجتماعي لعدم تحقيقها الموازين الثقافية المفروضة عليها.

هكذا ومع مرور الزمن أثرت ثقافتنا الجنسية على معتقداتنا وجعلتنا نبني صورة لا جدال فيها عن أنفسنا وعن الآخرين. وأصبحنا نصوغ القوانين والأخلاق العامة وفق تلك المفاهيم الثقافية المتجذرة في أذهاننا دون أن ندرك حقيقتها وجوهرها. ومثلما سعت الثقافة إلى تعزيز دور (البحث العلمي) في استقرار الرأي العام تجاه قضايا المجتمع، كان من المهم أيضاً للسياسيين والاقتصاديين تأطير هذا البحث العلمي في إطار عام يخدم مصالحهم بطريقة لا شك فيها. هكذا سعى البحث العلمي إلى تعزيز التحيزات البيولوجية القائمة على ثنائية الذكر والأنثى لزيادة ترسيخ مفاهيم النوع الاجتماعي في الحياة اليومية. وتوجيه الأفراد داخل المجتمع إلى قطاعات العمل التي توجه قدرة العامل ليكون أكثر إنتاجية. ووفقاً للتفكير الكلاسيكي فإن ذلك يعني أن المرأة بمرورها بأعراض الدورة الشهرية والحمل والرضاعة ستقل إنتاجيتها الاقتصادية، لذلك يُفضّل أن يتم توجيهها ثقافياً للعمل في القطاعات الخدمية التي تصبُّ في مصلحة المجتمع ولا تتعارض مع زيادة الدخل الاقتصادي للشركات الكُبرى والقطاعات الاقتصادية. ووصفت تلك الأعمال بأنها الأعمال الانسب التي تتوافق مع قدرة النساء (الطبيعية).

لذلك نرى أنه يتم توجيه أغلب النساء إلى قطاعات العمل الصحية أو التعليمية.. أما في مجالات العمل الصناعية والاقتصادية والإدارية فتُضطر النساء في كثير من الأحيان إلى تقديم تنازلات والعمل في ظروف غير قانونية، مثل العمل بأجر أقل أو لساعات أقل. إذ افترضت العديد من الدراسات العلمية المتحيزة نحو التفوق الذكوري بأن العمل ينبغي أن يكون مختلفاً لكي يتوافق مع المقدرة الجسدية لكل من الجنسين. بل أكدتْ العديد من الدراسات المزعومة مخاطر أعمال كثيرة على النساء وصحتهن الإنجابية في محاولة لزيادة عزل النساء وضبطهنَّ في مجالات عمل خاصة أو إبقائهنَّ في البيوت، وتأكيداً على أن الدور الأول والأهم لجميع النساء هو أمومتهنَّ.

لكن أصبح من المعروف في زمننا هذا ومع زيادة التقدم العلمي أن الفروق البيولوجية بين الجنسين لا تتجاوز 2 %، وهذا رقم أضعف من أن يتم بناء فروقات اجتماعية بناءً عليه. لهذا ثبتَ أن هذه التحيزات البيولوجية بين الجنسين ضعيفة وغير قادرة على التعامل مع الضغوط الكبيرة وأصوات المدافعين عن حقوق النساء الذين يطالبون بمساواة عادلة في الأدوار والحياة وبأبحاثٍ علمية أكثر دقة وبعيدة عن التحيزات الثقافية للباحث ومفهوم التفوق الذكوري.

 

العدد 1105 - 01/5/2024