الرياضيات والفن والجمال

رياض الدبس:

عندما نتأمل إنجازاً لمهندس معماري بارع، أو لوحةً لفنان مبدع، أو تمثالاً لنحات مميز، أو قصيدةً لشاعر ملهم، أو معزوفة موسيقية… تتجلى الرياضيات روحاً لجسد ينبض بالحياة، كقصيدة استوفت شروط جمالها الشكلي، وسرت الروح بجسدها فنطقت. إنها لغة الفن والجمال، لغة الكون.

قد يثير هذا الكلام استغراب البعض، ويعتبره أخرون انحيازاً مبالغاً فيه، وقد تبرز تساؤلات أيضاً عن دور الرياضيات في الفن والجمال. كل هذا مبرّر إذا علمنا أن المدرسة لم تشر من قريب ولا من بعيد إلى هذا الجانب، كما أنها لم تربط العلوم بالمجتمع، ولم توضح أيضاً تأثيرها في نمط التفكير عند المتعلم.

اعتبر فيثاغورث الرياضيات: الحساب، والهندسة، والفلك، والموسيقا. ويرى الفيثاغورثيون أن الجمال قائم على ركائز حسابية، على الأعداد التي لها سحرها وجمالها، والتي حاجتنا لها كحاجتنا للحروف في اللغة، نعبّر بها عن الكميات بأنماطها وتشكيلاتها المتعددة.

لم يختلف كونفوشيوس كثيراً عن فيثاغورس، عندما اعتبر أن الأعداد الصغيرة مصدر الكمال.

تطور الرياضيات اليوم، وتعدد فروعها، زاد ارتباطها بالفن؛ وزاد ارتباط الفن بها.

الفنان الرياضي بول أريدسون عبر عن نظرته لجمال الرياضيات قائلاً: (لماذا الأعداد جميلة؟ إنه كالسؤال لماذا سمفونية بيتهوفن التاسعة جميلة؟ إذا لم تعرف لماذا هي جميلة فسيخبرك شخص ما. أنا أعرف أن الأرقام جميلة، فإن لم تكن هي جميلة فليس هناك اي شيء جميل).

برتراند راسل يرى: أن الرياضيات تملك الحقيقة والجمال البارد القاسي كالنحت، والروح الحقيقية للبهجة والعلو كالشعر.

لن أتحدث عن الفنون بأنواعها المتعددة، هناك من هو أدرى وأجدر في هذا المجال، ونحن نغتني بإبداعاتهم وبما ينتجونه ويقدمونه، والنقد يضعنا جميعأً أمام المراجعات والتصحيح. أحاول فقط باختصار، تلمّس علاقة الرياضيات بالفن والجمال، منطلقاً من المشترك الأساسي بينها. العقل، والخيال والواقع، الذي ينتج عنه ما يسميه الفنانون عبقرية أو ما ندعوه الابداع.

ليس، تشايكوفسكي في بحيرة البجع. ولا، العازف العجوز للرسام بابلو بيكاسو. ولا، معادلات أينشتاين على الورق عن تمدّد الكون، والتي تحقق منها العالم الأمريكي هابل فيما بعد بواسطة تلسكوبه الفضائي المسمّى باسمه. ولا، ما سمعته اليوم (١٢/٧/٢٠٢٢) من مسؤول محطة ناسا عن التلسكوب العملاق (جيمس ويب) وهو يؤكد ما أقره هابل بشكل أوضح.. ما هذه إلا نماذج أو أمثلة على العبقرية والإبداع والخيال، الذي أنتج علماً ومعرفة وجمال.

في زمننا عدد هائل من الامثلة التي يصعب حصرها.

إذا كان (ليس جميلاً إلّا ما يجد تعبيره في الفن)، وإذا كان (هدف الفن إيقاظ المشاعر النائمة) حسب هيغل، فلنحاول إذاً تلمس الرياضيات في الفنون بشيء من الاختصار وبأسلوب مبسط، دون الخوض بعمق الرياضيات لأنها قد تكون صعبة لغير المختصين.

الرياضيات والهندسة والرسم والنحت

في الحالات الثلاث: الهندسة، والرسم، والنحت، كان للعدد الذهبي والمربعات السحرية والعدد الأصم (جذر ٢) مكانة مهمة تاريخياً. فقد استخدم العدد الذهبي في بناء الأهرامات عند الفراعنة، وبشكل خاص هرم خوفو الذي تنطبق عليه النسبة الذهبية (طول ارتفاع الوجه الجانبي للهرم إلى نصف طول ضلع القاعدة المربعة تساوي العدد الذهبي). وأن محيط قاعدة الهرم تقسيم ضعفي ارتفاعه يساوي 3.14 وهذا العدد (بي) الناتج عن تقسيم محيط الدائرة على قطرها.

الحديث عن الهندسة بشكل عام، والمعمارية بشكل خاص، هو حديث عن الرياضيات. فيه الكثير من الجمال والمتعة، التي يعرفها المهندسون جيداً. فلا يمكن لمهندس أو نحات أن ينتج إنتاجاً فنياً جيداً وجميلاً، إذا لم يتقن هندسة الفراغ ثلاثي الأبعاد وكيفية الرسم فيه. صحيح أن الأجهزة الحديثة بدأت بحل قسم كبير من المعضلات، ولكنها لا تملك الحس الجمالي الذي يسقطه المبرمج في جهازه.

يملك كل منا الكثير من الأمثلة على ما قدمه المهندسون، على سبيل المثال وليس الحصر: نماذج المهندسة العراقية زها حديد الموزّعة عالمياً، والتي أحدها ملعب الوكرة المغلق في دولة قطر الذي صمّمته قبل وفاتها، والجاهز للاستخدام في دورة الألعاب التي تستضيفها قطر نهاية هذا العام (2022).

إن أجمل ملاعب كرة القدم تلك التي تحقق النسبة الذهبية (نسبة الطول إلى العرض تساوي (— ١،٦١٨٠٣٣٩٨٨).

مقاسات الملاعب متعددة، والمقاس الأكثر استخداماً وتعتمده الفيفا هو: من (90-120 م) للطول ومن (64- 75 م) للعرض، والأبعاد الأكثر استخداماً  (68 ×105) ونسبته قريبة جداً من العدد الذهبي.

انتشرت منذ القديم وحتى الآن الزخارف الهندسية، التي تطورت مع تطور الرياضيات، وأدخلت إليها العديد من الاشكال الهندسية. اشتهر المسلمون بهذه الفنون، وربما أحد أسباب توجههم إلى هذا الفن هو موقف الإسلام من صور الانسان والحيوان.

زينت لوحات الأرابيسك أماكن عديدة وخاصة الجوامع، فأكسبت هذه الأماكن روعةً وجمالاً.

يُعتقد أن الرسام الإيطالي ليوناردو دافنشي قد طبق معرفته العميقة في التشريح والرياضيات، وخاصة العدد الذهبي، في لوحته الشهيرة الموناليزا (الجوكندا)، وفي لوحة (العشاء الأخير)، فمثلاً: في الموناليزا (بعد أسفل الأنف عن نهاية الذقن إلى بعد الفم عن نهاية الذقن هو العدد الذهبي).

عالم الرياضيات ليوناردو فيبوناتشي استطاع استنتاج النسبة الذهبية من متتاليته الشهيرة التي تحمل اسمه:

(…. 1،1،2،3،5،8،13،21،34، ٠)

تعكس لوحة (ميلينكوليا) للرسام الألماني الشهير البرخت دورر الواقع الكئيب للمجتمع في بدايات عصر النهضة. احتوت على المربع السحري الرباعي الذي حمل تاريخ اللوحة عام (١٥١٤).

لا بد من الإشارة هنا إلى أن أقدم المربعات السحرية هو المربع الثلاثي، وهو عبارة عن مصفوفة مربعة مؤلفة من ثلاثة أسطر وثلاثة أعمدة، عرف عند الصينيين منذ٣٠٠٠ ثلاثة آلاف سنة قبل الميلاد، ويسمّونه مربّع (لوشو)، وتقول الأسطورة: ان الإله أرسله على ظهر سلحفاة صينية ظهرت عند نهر (لو) واعتبرت رسالة لزيادة عدد القرابين.

تنبض تماثيل الفنان المهندس الشاعر مايكل انجلو بالحياة، بسبب اهتمامه بالتفاصيل التشريحية، مع معرفة مقاسات جسم الإنسان، ومقاسات أعضائه الأساسية، التي جسدها في لوحتيه (خلق آدم وخلق حواء).

أعتمد النحات وعالم الرياضيات اليوناني القديم المشهور بوليكليتوس العدد الأصم (جذر2) للتعبير عن العري الذكوري المثالي في صناعة تماثيله البرونزية وغيرها، مستخدماً مقاييس ونسب حسابية لمعرفة أجزاء جسم الرجل، مثلاً: طول سلامية الخنصر مقسوماً على طول السلامية التي تسبقها تساوي جذر٢، وطول الخنصر ضرب جذر ٢ يعطي طول الكف من نهاية الإصبع الى الرسغ. قام بالتعميم، واكتشف النسب التشريحية المثالية للعري الذكوري التي تعبر عن تناغم وانسجام في الشكل المنظور.

تجسدت جماليات هذه المقاييس في تحويل ثقل الجسم إلى أحد الساقين من خلال تحديد مركز الثقل.

يعرف أطباء التجميل، وأطباء الأسنان المختصون في التجميل، أهمية العدد الذهبي. ويعرفون أيضاً اهتمامات بيكاسو ومايكل آنجلو الرياضية والتشريحية.

 

الرياضيات والموسيقا

هل كتاب الموسيقا ككتاب الطبيعة مكتوب بلغة الرياضيات؟ هكذا تساءل العالم المعروف غاليلو، وأتبع سؤاله بسلسلة تساؤلات جميعها تحمل إجابة مفادها أن الرياضيات متخفية في رقص الإيقاعات وجمال المقامات.

الرياضيات علم يخاطب العقل بلغة المنطق، والموسيقا فن يخاطب القلب بلغة المشاعر، ويجمع اللغتين العمومية، والتجريد، والإبداع، والجمال، وإنتاج الجديد المفيد.

الرياضيات أكثر العلوم تجريداً، ولكنها أكثرها أهمية في التطبيق. والموسيقا كالرياضيات مع الارتباط الشديد بالطبيعة والإنسان.

في مركز بحوث وضعت أمام الفريق الأول لوحات ومعادلات، ووضعت أمام الفريق الثاني معادلات ومعزوفات موسيقية، كانت النتائج مدهشة بالتشابه الواضح بين تقييم الناس للوحات الفنية والبراهين الرياضية، وتقييمهم للمعزوفات الموسيقية والمعادلات.

في تجربة لأطباء الأعصاب باستخدام الرنين المغناطيسي وجد أن الأمر مرتبط بقدرة الدماغ على الاستنتاج والاستقراء وبناء المقاربات المنطقية، وأن المنطقة التي تتحسس جمال الموسيقا أو الرسم تتحسس جمال الرياضيات.

يحكى أن فيثاغورث مر في سوق الحدادين فوقف يستمع إلى ضربات المطارق، وبعد التأمل لاحظ اختلافاً في شدّتها وحدتها. بعد عودته إلى منزله بدأ يجري تجاربه على الأوتار، واستنتج أنه كلما قصر طول الوتر تزداد حدة الصوت.

استنتج فيثاغورس أن الأنغام والأرقام في انسجام دائم، وأن الرياضيات تسكن في أعماق الموسيقا، حتى الكواكب برأيه تسير بتناغم فيما بينها أسماها موسيقا.

المعلم الصيني كونفوشيوس كان يقول: (يجب أن يتعلم الجميع الموسيقا، إذا أتقن الإنسان الموسيقا، وقوّم عقله وقلبه بمقتضاها وعلى هديها، يطهر قلبه وقد صار قلباً طبيعياً، سليماً، رقيقاً، عامراً بالإخلاص والوفاء).

العالم الموسوعي (السكلوبيدي) يعقوب بن إسحاق الكندي من منظري قواعد الموسيقا، اقترح إضافة الوتر الخامس للعود، ووضع سلماً موسيقيا من 12 نغمة.

الصوت حسب هرتز هو اهتزاز في الهواء على شكل موجات، يمكن تمثيله رياضياً بتابع، والتردد هو عدد الاهتزازات في الثانية، وهنا نجد الحد الفاصل بين الضوضاء التي تؤذي الوجدان والعقل، والموسيقا التي تخاطب الروح.

 

الرياضيات والشعر

الرياضيات ليست فقط حلاً لمعضلات رياضية، إنها عملية خلق وإبداع لأنماط جديدة من التفكير، تتميز بالوضوح والدقة والإيجاز. في الرياضيات فكر، وتجريد، وواقع ومنطق، ومسلمات، وتعاريف، ومفاهيم، ومبرهنات. وفي الشعر خيال، وواقع، وإيجاز، ودقة العبارة، وجمال الصورة والشكل والمضمون.

الرياضيات والشعر يعملان في الميدان الصعب، في بحر يغرق فيه من لا يجيد السباحة.

تستهوي الرياضي البراهين الجميلة، الدقيقة، المختصرة المعبرة، الخالية من الحشو. وتستهوي الشاعر الصور البديعة، والأفكار المنظمة الواضحة، ويمضي كلاهما بصبر وعزيمة لإنجاز مهمته.

في كلمه للمفكر السوري الراحل إلياس مرقص في مؤتمر تونس للمفكرين والفلاسفة والمثقفين العرب قال (بتصرف): من لا يعرف جذر (٢) ومن لم يسمع بالعدد الذهبي عليه مراجعة ما يكتب. أعتقد أنه كان جاداً وحاداً في ربط الرياضيات بالفلسفة والفكر والأدب والفن وكل العلوم.

أحد المهتمين بالفن والرياضيات قال: (إذا كان جمال الشعر ببحوره الستة عشر التي ابتكرها الفراهيدي فجمال الرياضيات وشيفرته هو العدد الذهبي).

أحب أبو نواس (الحسن بن هانئ)، (جنان) وهي جارية شديدة الجمال، قال فيها أجمل الشعر، وأعطاها من قلبه معظم الأسهم حين قال:

جنان حصلت قلبي   فما إن فيه من باقِ

لها الثلثان من قلبي   وثلثا ثلثه الباقي

وثلثا ثلث ما يبقى   وثلث الثلث للساقي

وتبقى أسهم ستٌّ   تجزأ بين عشاقِ

ترك لنا الشاعر تحديد عدد الأسهم التي حظيت بها جنان من خلال ربطه الجميل بين الشعر وعلم الأعداد.

حروف اللغة العربية رتبت سابقاً وفق (أبجد هوز حطي كلمن سعفص قرشت ثخذ ضظغ) كل حرف يقابله عدد.

أ-ب-ج-د-ه-و-ز-ح-ط-ي تقابلها الأعداد من ١ —-١٠

1-2-3-4-5-6-7-8-9-10

ك-ل-م-ن-س-ع-ف-ص-ق تقابلها تسعة أعداد من ٢٠-١٠٠

٢٠-٣٠-٤٠-٥٠-٦٠-٧٠-٨0 -90-100

ر-ش-ت-ث-خ-ذ-ض-ظ-غ تقابلها الأعداد من ٢٠٠ إلى ١٠٠٠

٢٠٠-٣٠٠-٤٠٠ -٥٠٠ -٦٠٠ -٧٠٠ -٨٠٠ -٩٠٠ -١٠٠٠

لدينا نماذج عددية كثيرة وجميلة، ونماذج رياضية في فروع متعددة لا يتسع المجال لذكرها.

مفاهيم بالرسم

أودّ قبل أن أختم الاشارة الى ربط الاعداد بالطبيعة، وتمثيلها بالرسم على شكل أنساق او صفوف او مجموعات لها عدد العناصر نفسه.

من قام بتعليم أولاده أو أحفاده الأعداد الطبيعية، يتذكر الرسومات المتنوعة الجميلة التي تمثل موجودات الطبيعة مرتبة وفق صفوف أو أنساق أو مجموعات تمثل الأعداد الطبيعية. هذا التمثيل تمهيد ذو دلالة لمقاربة مفهوم الأعداد الطبيعية بموجودات الطبيعة، ثم البدء بترميز العدد ورسمه وقراءته وتمييزه؛ واستنتاج مفهوم العدد.

مثلاً: الواحد هو صف من المجموعات التي رئيس كل منها واحد ونقرأ واحد ونرمز (1). الاثنان هو نسق من المجموعات المتكافئة قدرة رئيسها اثنان وتقرأ اثنان وتكتب (2).. وهكذا نتبين مفهوم الأعداد الباقية بالطريقة نفسها من خلال الرسم، كمقدمة لعرض المفهوم رياضياً وتوضيح الخلفية المعرفية له، التي يدركها ويجيدها المعلم، ولا يعرفها المتعلم في البداية مع إدراكه لتمثيلها، وبقاء صورة الرسومات وشكل العدد ماثلا في ذاكرته ووعيه، ليتعرف في مرحلة لاحقة على الخلفية الرياضية.

(نقلاً عن صفحته الشخصية)

العدد 1105 - 01/5/2024