خمسون عاماً على رحيله.. هل كان غسان كنفاني ماركسياً؟

عبد الرزاق دحنون:

يقول فضل النقيب في تقديم المجلد الخامس من الأعمال السياسية الكاملة لغسان كنفاني: كنتُ معه في مكتب مجلَّة (الهدف) لسان حال الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، مساء أحد أيام السبت أواخر آب 1970، وبعد أن أنهى عمله تركنا المكتب لنستقلّ سيارته إلى بيته في حيِّ الحازميَّة من ضواحي بيروت، وقبل أن يقود السيارة اعتذر غسان عن أنه نسي كتاباً يريد أن يحضره للبيت. فعاد إلى مكتبه في مجلَّة (الهدف) وأحضر معه كتاب (الدولة والثورة) تأليف لينين. وقال إنه في حاجة إلى الكتاب لأنه يُعدّ دراسة عن الماركسية، فابتسمت، فقال كأنه يُجيب على ابتسامتي: ولكن ستكون مكتوبة على طريقتي الخاصة.

في الواقع كلّ ما كتبه غسان كنفاني جاء مكتوباً على طريقته الخاصة والمميزة، كان يكتب، ويُغرّد – بلغة اليوم – داخل السرب وأحياناً كثيرة خارج السرب، هذا ديدنه في كل ما كتب، ملغياً بذلك الحواجز بينه وبين موضوعه الذي ينغمس فيه.

جاءت دراسته تحت عنوان (الماركسية، في المجال النظري، في المجال التطبيقي، المناقشة) في حدود سبعين صفحة بَسَطَ فيها رؤيته عن الماركسية من وجهة نظر مفكِّر مقاتل في الخندق المتقدم من قلب المعركة، وهي تختلف اختلافاً بيّناً عن رؤية أصحاب المكاتب المغلقة وأصحاب الفكر (الخشبيّ) أو عن رؤية أهل الفكر الخارجين لتوِّهم من معطف (بيليكوف) بطل قصَّة أنطون تشيخوف (الرجل المُعلَّب) منشورة في المجلد الثاني من الأعمال المختارة في أربعة مجلدات التي ترجمها عن الروسية الرجل النبيل أبو بكر يوسف. (بيليكوف) هذا النموذج البشريّ الذي يخشى كلّ تجديد وكلّ مبادرة، بل ويفرح حين ندعه يعيش في ماضيه الغابر وعُلبه المُغلقة. وعلى فكرة قصة أنطون تشيخوف عاشت أكثر من مئة عام وستعيش لمئات السنين الأخرى. هي واحدة من تلك القصص الحيَّة التي نعيشها يومياً، قريبة إلى حد مدهش من حياتنا، تكاد تلامس أرواحنا في كل ساعة من ساعات نهارنا، نراها أمامنا اليوم وغداً وبعد غد في الشارع العام، نراها ماثلة في غرف مكاتبنا في دوائر الحكومة التي نعمل بها، في مكاتب أحزابنا السياسية، في وزارات الدولة المتنوعة، ادخل أية وزارة من تلك الوزارات وستجدها تتكرر بين هذا المكتب الوزاري وذاك، فضلاً عن قصور الرئاسة. وانتقل إلى قاعات الجامعات ومدرجاتها ستجد الكثير منها في هذه القاعة أو تلك، أو في هذا المدرج أو ذاك. إنها لازمة لا تفارق حياتنا، مع أننا نعيها جيداً، ولكنها دائماً ما تتغلب علينا ولا نستطيع الخلاص منها بسهولة.

يقول غسان كنفاني: كنقطة ارتكاز لموضوعنا أُحبّ أن أستعير الفيلسوف جون ديوي، لأؤدي على لسانه تفسيراً لماهية الفكر البشري. فهو يرى أن الفكر في الأساس أداة لخدمة الحياة، وأن الناس يُزاولون التفكير مضطرين، أي أن تفكيرهم هو طريقة يواجهون بها صعوبات حياتهم. أما مقياس صحة هذا التفكير فيُستقى من مدى ما يُحققه من نجاح في المضمار التطبيقي.

نعم، بداية موفقة، كان في هذه الدراسة مقاتلاً، شجاعاً، واقعياً، حالماً، وقد بلغ من العمر في حينها أزيد من ثلاثين عاماً، ومما يؤسف له أن غسان كنفاني ولد على عجل ورحل على عجل، فكان يقتحم المواقع الفكرية اقتحاماً، كأخيه أرنستو تشي جيفارا. ذخيرة سلاحه حبّه هذه الجماهير الغفيرة الكادحة، هؤلاء البؤساء أصحاب الأقدام الحافية في المخيمات، الجائعون، المعذبون، المهمشون في بلاد الشتات، يبحث معهم عن طرق خلاصهم من شقاء لا يُفارقهم. يبحث معهم ولا يبحث لهم، لأنه كان مهموماً بهمّهم ومعهم في هذه الهموم التي تراكمت عبر الزمن في مخيمات البؤس والفاقة، همَّه إنسان المخيم، وبيوت الصفيح، وأطفال الأزقة في المخيمات، والنساء الكادحات من الصباح إلى المساء، كأم سعد تلك المرأة (المدرسة اليومية) التي تعلَّم منها، ويتعلم منها كل مطلع شمس، يريد أن يصل معهم إلى برِّ الأمان، والعودة معهم إلى ديارهم في فلسطين، لأن اللِّباس المُستعار لا يردّ برداً زمهريراً، وكانت جماهير المخيمات بردانة، تعبانة، لذلك فتش عن كارل ماركس لعل وعسى يجد عنده الحلَّ. فهل وجد غسان كنفاني عند هذا الشيخ الجليل ما كان يَصْبُو إليه، هو القادم من حركة القوميين العرب وشباب الثأر مع رفيق دربه جورج حبش؟

أنا هُنا لا أقرأ ما كتبه غسان كنفاني بعين الباحث المدقق، فهذه مهمة أخرى، بل سأسير معه سير الرفيق المخلص، وأنا أعرف ومقتنع بعنوانه العريض في روايته أم سعد (خيمة عن خيمة تفرق) وفي القياس: ماركسي عن ماركسي يفرق. ما رأيك في أني أحبُّه وأريد أن أسير معه في هذا الحديث سيرة الصديق الوفي الأمين فلا أسوؤه في نفسه ولا في رأيه، ولا أذهب مذهب أصحاب العلم الذين يضجون بموضوع بحثهم فيخضعونه لألوان من التمحيص وضروب من التحليل، يحملونه من ذلك ما يطيق وما لا يطيق، ويعرضونه من ذلك لما يحبّ وما لا يحبّ. وأنا أعرف تماماً أنه أحبّ الماركسية وأهلها. فهو يكتب في مجلَّة الصياد باسمه المستعار فارس فارس بتاريخ 2/3/1972: ربَّما كان ماركس واحداً من القلائل الذين لا يمكن أن تُكتب سيرةُ حياتهم بمعزل عن تلك العمارة الفكريَّة الهائلة التي أفنى عمره يبنيها حجراً فوق حجر.

أفلو كان غسان كنفاني حيَّاً معاصراً وكنت له صديقاً أتراني كنت أظهر من أمره ما يقتضي إظهاره، وأجهر بما يفرض أن يجهروا به، مضحّياً في سبيل ذلك بما يمكن أن يكلف ذلك من الحزن والألم؟ أم تراني كنت أوثر ودَّه وأرعى حقه فأحفظ عليه غيبه ولا أوذيه فيما لا يحبّ الناس أن يؤذوا فيه من أمورهم؟

من وجهة نظري، أنا مع رأي فضل النقيب، الذي يؤكد أن غسان كنفاني اقترب في موقفه من موقف المُناضل والمفكِّر الباكستاني الثوري الكبير (إقبال أحمد) الذي عاش تجربة الثورة الجزائرية وثورات تحررية أخرى، ودرسها درساً متقناً، واستخلص منها الكثير من العبر، لذلك نقل أفكاره بحبِّ-على حدِّ تعبير إدوارد سعيد- إلى رفاقه في المقاومة بعد زيارة معاقلهم في جنوب لبنان في نهاية سبعينيات القرن العشرين، وحذَّر الفصائل الفلسطينية المُقاتلة من مخاطر الوقوع في فخِّ الاعتماد على الكفاح المسلَّح خياراً نضالياً وحيداً من دون تأطيره بنضال جماهيري تحرري وطني واجتماعي وقومي.

ليتك يا غسان كُنْتَ بيننا اليوم لتعرف ما آلت إليه أحوال الخلق في هذا الزمن الأغبر، ولكن هيهات، ما كلُّ ما يتمنى المرء يُدركه/ تجري الرياحُ بما لا تشتهي السفنُ. وقد كانت الرياح التي ضربت مواقعنا عاصفة عاتية. قتلوك حين كنتَ لا تزال تنمو وتكبر، وكان خطرك على إسرائيل أكبر من أن يتحملوا وجوده، فنسفوك نسفاً.

وفي مساء يوم الفاجعة قالت ابنتك ليلى لأمها الدنماركية – الفلسطينية آني هوف كنفاني: ماما، لم تكن تلك غلطة بابا، الإسرائيليون هم الذين وضعوا القنبلة في سيارته. كان صباحاً صيفياً دامياً في بيروت يوم السبت الثامن من تموز 1972 يزن سبعة كيلوغرامات من المتفجرات مزَّقت جسد ذلك الغزال الذي كان يُبشِّر بزلزال.

العدد 1104 - 24/4/2024