رغم كلّ ظروفه غيّر العالم.. فماذا تنتظرون؟!

أحمد ديركي:

عند الحديث عن أيّ عملية تغيير جذرية يتفصحن المتفصحنون، ويتنطّح المثقّفون، وينظّر المنظّرون، بأحاديث كثيرة وعبارات مشوّشة، ويلفّون ويدورون في أحاديثهم ليبرّروا عدم نفع التغيير، أو تأجيله لتنضج الظروف! منتظرين نضوج الثمرة وهم قاعدون خلف مكاتبهم ينظّرون، ومتى نضجت يقطفون ثمار نضالات الطبقة العاملة التائهة بتنظيراتهم وفصحنتهم.

كارل ماركس لم يكن مثلهم بل نقيضهم. عمل على تحقيق التغيير الجذري رغم كل الظروف التعيسة المحيطة به، ولم يقل يوماً: ما من حاجة لإنتاج فكر وعمل للتغيير، ولا انتظر حتى تنضج الظروف. وهاكم جزءاً من واقع حياة ماركس:

بدوا كأشباح في وسط ضباب لا يمكن الرؤية من خلاله مترددين على أبواب وأزقة شارع سوهو دين (Soho’s Dean Street). لقد أتوا أفواجاً أفواجاً بعشرات الآلاف إلى لندن– لندن الملكة فيكتوريا – أغنى مدينة في العالم. مدينة كريمة وحرّة، أشعّت كمنارة في مياه بحر الشمال (North Sea) الداكنة الهائجة، موفّرةً ملاذاً للمنكوبين والوحيدين. الإيرلنديين الهاربين من الفقر والمجاعة أول من هرب اليها، ولكن الثورات التي طالت القارة، أفرغت قوارب الألمان والفرنسيين والهنغاريين والإيطاليين المرتدين أزياءهم الغريبة في شوارع لندن. كانوا لاجئين سياسيين هاربين من محاولات فاشلة للإطاحة بالملوك، وكسبوا حرياتهم الأساسية. الآن في المطر المنهمر والبرد القارس، فكرة القتال من أجل حقوق الفرد تبدو منافية للعقل. المنارة التي مثلتها لندن أثبتت أنها سراب. لقد فتحت المدينة أبوابها ولكن لم تقدم لهم شيئاً، بل كانوا يتضورون من الجوع.

طوال الليل والنهار يمكن سماع نغمات أنين الألم في وسط ظلمة العاصمة. لينجوا باع القادمون الجدد ما يمكن بيعه – ثيابهم الرثة، أزرار ملابسهم، أشرطة أحذيتهم… وفي معظم الأحيان باعوا أنفسهم للعمل أو الدعارة، بدوام الساعة أو اليوم. لبسوا، رجالاً ونساءً، يأسهم كالثوب الخشن، وقادت المأساة بعض صناعييهم إلى الجريمة. دخان العبارات محمّلة بجثث عمالها وكذلك محملة بالأجبان الفاخرة، مبحرة إلى المناطق الغنية، وتزيد من سرعتها عندما تمر بالقرب من حي سوهو وشارع غيلز لتجنب اللصوص والقتلة. لكن في الحقيقة معظم اللاجئين كانوا أضعف من أن يقاتلوا أو يسرقوا. فهم قطعوا مسافات طويلة ليصلوا إلى لندن محمّلين بالأمل، ولكن غادرتهم آخر أحلامهم.

في علّيةٍ من غرفتين في مبنى من 3 طوابق بشارع دين كان منفيّ بروسيّ، بعمر 33 سنة يجلس منهمكاً بإعلان الحرب على النظام، مديناً من في الأسفل على وجودهم في البؤس. لم يحاول إخفاء هدفه، بل جلس متحدياً على الطاولة الوحيدة لدى العائلة محاطاً بالأقداح المتكسرة، والألعاب وأدوات الخياطة وأشياء أخرى محطّمة، مخربشاً خطة أولية للثورة. كان واضحاً في صخب المحيطين به، والأطفال الذين جعلوا من شكله الضخم لعبتهم ليتسلقوا على ظهره.

في غرف منتشرة في لندن كان أصحاب الرؤوس المشابهين له يعملون بجد: داروين يفكر بالبرنقيل (نوع من الأوز). ديكنز أنجب للتو نسله المفضّل دايفييد كوبر فيلد، بازلغيت يتخيل شبكة الصرف الصحي التي يمكن أن تنقذ لندن من نفاياتها. وفي غرفته في سوهو، ماسكاً السيجار بين أسنانه، رسم كارل ماركس الانقلاب على الملوك والرأسماليين.

لم تكن ثورة ماركس من ذاك النوع الذي يتبجح به المتحدثون المجتمعون على كأس بيرة، والمدافعون عن اللجوء في جمعيات سرية منقسمين على دمار الحرب التي فازوا بها في مخيلتهم. كما لم تكن من ذاك النوع من الانتفاضة الطوباوية التي نشرها الفرنسيون الاشتراكيون الحالمون بنموذج اجتماعي من دون أي خطوات ملموسة لبنائها. كلا لم تكن ثورته هكذا، بل كانت ثورته متجذرة في قاعدة مقدمة منطقية وهي: لا حقّ للإنسان باستغلال الإنسان الآخر، والتاريخ يسير في اتجاه أن هذه الكتلة المستَغَلة (بفتح الغين) سوف تنتصر في يوم من الأيام.

متى يأتي دوركم، أيها المنظّرون، لتقوموا بعملكم ولتكونوا جزءاً من نضالات الطبقة العاملة، ولتقودوا ثورتها معها لا مع منظّري الأبراج العاجية الخائفين من خسران امتيازاتهم العاجية؟

 

العدد 1104 - 24/4/2024