الديمقراطية هي فكر وممارسة

يونس صالح:

الديمقراطية هي اقتناع فكري ومفهوم اجتماعي يهدف إلى إعلاء شأن الناس ومقاومة الاستبداد.

ظلت الديمقراطية كنزعة تحررية مجرّد أفكار نادى بها العديد من المفكرين عبر التاريخ منذ فلاسفة الإغريق في القرن الخامس قبل الميلاد، حتى القرن الثامن عشر، ولم تتحول الديمقراطية إلى تيار فكري وتوجّه اجتماعي يتعلق بممارسة السلطة وتنظيم المجتمع إلا بفعل تطورات عرفتها أوربا منذ عصر النهضة، فاكتسبت الديمقراطية مفهومها الإنساني في القرن السادس عشر، وحققت نزعتها النقدية ونظرتها التحررية مع حركة التنوير في القرن الثامن عشر، وفرضت تصورها الاجتماعي بفعل تحولات الثورة الصناعية في النصف الأول من القرن التاسع عشر، وأصبحت في النصف الثاني للقرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين تياراً عالمياً تجاوز خصوصيته الأوربية، واكتسب طابعاً شاملاً بفعل الاندماج الكوني الذي كرسه الاستعمار وأكدته الحركات التحررية، وساعد عليه تطور المواصلات وتبادل الأفكار.

لقد أصبحت الديمقراطية تعبيراً عن اقتناعات فكرية ومفهوم اجتماعي وموقف آمنت به وعملت على تطبيقه القوى الدافعة للمجتمع، والمؤمنة بدورها في صياغة مشروع (تنظيم للمجتمع وبناء الدولة الحديثة) ينطلق من خصوصية الفرد كمواطن، وينتهي بضمان إرادة الشعب صاحب السيادة الحقيقية، ويمس جوهر العلاقات الاجتماعية والنشاطات الاقتصادية والفكرية.

تمارس الديمقراطية إذاً كمنهج عملي لمؤسسات الدولة، ومحفّز لقدرات الفرد، ومفعّل لطاقات المجتمع بالالتزام بمبادئ منظّمة للحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، أهمّها:

– الإيمان بحرية الفكر والتسامح واحترام كرامة الإنسان وضمان حقه في الحياة ورفض التعصب.

– تكريس المساواة واعتبارها أساساً للتعاون ومنطلقاً لاحترام الآخر، فتحقيق المساواة وضمان حرية الفرد هي أسس الديمقراطية التي ترفض إقرار الامتيازات الوراثية، بحيث تضمن المساواة لكل واحد أن يصل إلى كل الوظائف.

– احترام حرية المبادرة.

– العمل على تكريس سيادة الشعب عن طريق الاقتراع العام باعتباره تعبيراً عن إرادة الشعب، ووسيلة فعالة لتخليص المجتمع من العراقيل والضغوط والفساد.

– رفض ممارسة السيادة خارج المؤسسات، لكون تلك المؤسسات هي المعبر عن إرادة الشعب، ولهذا يجب فيها ألا تصنع حسب المقاس، ولا تصاغ اعتماداً على مصالح خاصة، بل يحترم فيها مبدأ فصل السلطات التشريعية والقضائية والتنفيذية، ولا تخضع للتعديل إلا من أجل ضمان الحريات الفردية والحد من الامتيازات الخاصة، وهي ما يجعل من الديمقراطية واقعاً يعيشه الشعب.

إن الديمقراطية بهذه القيم والممارسات هي استجابة لحاجات الأفراد والمجتمعات، ومحاولة لإيجاد توازن في حياة المجتمع انبثقت من تجربة تاريخية طويلة اعترتها انتكاسات، وواجهتها مخاطر، وهددتها الزعامات الفردية والشعارات الشعبوية لتفرض نفسها كنموذج ناجح لممارسة الحكم وتنظيم المجتمع وحماية الفرد، وهذا ما يجعل منها اليوم بالنسبة للشعوب العربية خياراً مطروحاً، كما كانت بالنسبة للمجتمعات الأوربية في فترة سابقة خياراً صعباً وتحدياً قاسياً، لم تنجح إلا ببعض جوانبه فقط.

 

العدد 1105 - 01/5/2024