من سيرة أبناء الغمام والمطر

عباس حيروقة:

كثيراً ما كنت وأنا في مرحلة الطفولة أتأمل بعينين نهمتين مفردات الأرض من –*حقول قمح ممتدة تجاه اللانهاية بدءاً من مرحلة البذار – الفلاح وهو يملأ يده قمحاً من كيسه المعلق على كتفيه ورقبته ليذرها في تربة من لحم ودم تربة حمراء حمراء – وانتهاء بالحصاد وما أدرانا ما الحصاد؟! من ألف بائهإ لى ياء يائه (منجل – مغمار – مدراية – شميل – حيلان -..الخ) مروراً بالأخضر اليانع الندي.

* تأمل حقول القطن وتداخل الألوان بكامل حيويتها لا سيما الأبيض والأخضر وآلية جني المحصول على أيدي الرفيات الحالمات وتلك الحكايا والمواويل التي تتناثر هنا وهناك.

*تأمل (المقاتي).. من بطيخ وجبس وعجور وخيار وقتي حارسها وحاميها وهو في (علّيته) التي كنا نطمح للاقتراب منها، فكيف الصعود إليها وتأمّل امتدادات الأراضي.. منظر الجبس من علٍ كرات خضراء مدهشة.

*تأمل كروم العنب والتين المنتشرة في التلال ومشاوير المساء العابقة بأحاديث العشّاق.. رحيل صبايا وشباب القرى تجاهها في المساء وعودتهم قبل العشاء وعلى رؤوسهن (قراطل وقفف) مليئة بالعنب.. بالتين وتحيات المساء على سكنة البيوت المنتشرة على يمين الدروب وشمالها وتوزيع بعض ما يحملون عليهم.

*تأمل أشجار الرمان.. زهراته الجلنار وتلك الألوان المدهشة الباهرة.. ثمراتها تذوقها.

*تأمل أسراب الحمام، حمام القرى عند الغروب وتحليقه حول بيادرنا وكيف تحط.. تطير.. أسراب النمل.. دروبه.. بيوتاته الطافحة بالقمح وبالحب. أعشاش العصافير، قشّها الناعم الدفيء وما يضم من بيض ثم من فراخ، ومراقبة أفواهها الجائعة المفتوحة إلى أقصاها بانتظار قدوم أمها كي (تزقّها).

*سواقي قرانا المنتشرة هنا وهناك وهي تحمل الماء شمالاً تجاه الحقول.. كان أكثر ما يرعشني هو الإصغاء مليّاً لصوت الماء مغرّداً مسقسقاً مبتهجاً برسالته.. الصوت الذي تصدره التربة العطشى ارتعاشتها لحظة مصافحتها لسلسبيل الحياة.. ينابيع المياه العذبة المنتشرة غرب قرانا.

*شلالات (الزاوي) تلك الصخور البيضاء أشجار السنديان والبلوط والزعرور، قطيع الغنم السارح في سفوح الجبال.. الراعي، ناياته، كلبه العدواني الشرس، وحماره البليد وقربة الماء.

*رحيل الغيوم شرقاً حين ريح.. رعد السماء.. برقها.. أمطارها.. السيول..

تأمل.. وتأمل.. وتأمّل!

هكذا بدأ يتشكل قاموسي الكوني قبل اللغوي.. إذ وكما أقول دائماً: بدأتُ بقراءة مفردات الله المسطورة في كتبه قبل قراءة مفرداته المسطورة في كتبه، وحتى يومي هذا ما زلت أتأمل بتلكما العينين النهمتين المفردات ذاتها ولكن بدهشة ورعشة ونشوة أكبر، وبدأت أكثر قدرة على فك الرموز وطرح أسئلة الحياة ومحاولة البحث عن إجابة ما على سبيل المثال لا الحصر:

أدركت بعد تأمل الفلاح الذي يقضي جل نهاره في الأرض يسقي الحقول بقدمين حافيتين منغمستين في الطين كم هو طيب وحاتميّ ومسالم ومتصالح مع نفسه، مع الله، مع الحياة، لما تقوم به الأرض من سحب الطاقات السلبية وضخ المزيد المزيد من جرعات المحبة والحياة والسلام في قلبه.

وكم شكلت لي دعوة لمعاودة تأمل المفردات ذاتها ومحاولة تقديم قراءة مغايرة بأبجديات أكثر حيوية ودهشة ورعشة ونشوة وبحساسية جديدة تليق بكنه هذا العالم وأسراره بسيّده (الإنسان) هذا الكائن المهيب المهيب.

العدد 1105 - 01/5/2024