الانتخابات النيابية في لبنان.. هيّا بنا نلعب!

أحمد ديركي:

كل متتبع لعلم السياسة، بالمعنى العلمي للكلمة لا الشعبوي، يمكن أن يرى مدى تطور هذا العلم منذ أرسطو في كتابه (الجمهورية) وصولاً إلى القرن الـ21. تطورت النظريات لتبنى على قواعد أكثر علمية وتجارب وقراءات ومعطيات تواكب التطور التاريخي والانتقال في أنماط الإنتاج وما يستلزم هذا الانتقال من تغيرات جذرية على المستويات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية كافة، وظهور مفاهيم جديد تواكب هذه التطورات، وتعديلات جذرية في المصطلحات القديمة، ومنها على سبيل المثال التغيرات الجذرية التي طاولت مفهوم (الديمقراطية) من أرسطو وصولاً إلى اليوم.

حالياً هناك نظرية معقدة في هذا العلم، علم السياسة، تعرف بـ(نظرية المعرفة). نظرية معقدة تعتمد على تداخل أكثر من علم من العلوم الطبيعية والإنسانية. نظرية يطبقها تقريباً معظم قياديّي سياسات العالم ويعبرون عنها في خطاباتهم السياسية الرسمية ومحادثاتهم الجانبية وعلى منابر الهيئات والمؤسسات الدولية ورسم سياساتهم الداخلية والخارجية. ومن جوانب هذه النظرية مبدأ (رابح – رابح) أو (رابح – خاسر) أو (خاسر – رابح).

إذا أردنا مقاربة لبنان، وتحديداً الانتخابات النيابية التي جرت منذ أيام قليلة والنتائج التي أفرزتها هذه الانتخابات، من وجهة نظر نظرية اللعبة يمكن القول إن هناك متغيرات حدثت أفرزت معطيات جديدة لاستكمال اللعبة التي قد تكون نتائجها المستقبلية (خاسر – رابح).

لبنان معقد المقارب لتشابك معطياته على كل المستويات، فلا هو دولة بالمعنى الصحيح ولا هو ليس بدولة. أحزابه السياسية معظمها ليست بالأحزاب السياسية بالمعنى الصحيح، بكونها أحزاباً طائفية لا سياسية. ونظامه السياسي وفقاً لدستوره نظام برلماني، ولكنه لا برلماني بالمعنى الصحيح، واقتصاده ليبرالي، وهو ليس بليبرالي بالمعنى الصحيح وتكثر الأمثلة على مدى تناقضاته.

وقد شهد عدة حروب أهلية منذ (ثورة 1958) وصولاً إلى الحرب الأهلية اللبنانية من عام 1975 لغاية 1990، ومن ثم دخوله بميثاق الطائف، الاتفاق الذي كرس طائفية النظام السياسي معطياً تقاسماً جديداً للطوائف الكبرى في لبنان صلاحيات سياسية كانت محتكرة على طائفتين فقط.

إلا أن هذا الاتفاق الذي كان برعاية خليجية – دولية لم يأخذ بعين الاعتبار متغيرات أرض الواقع، كما لم تأخذ السلطة السياسية المتغيرات. فاستكملت السلطة السياسية مسيرتها التحاصصية الطائفية مهملة بقية مصالح الشعب كما استكملت ارتهانها للقوى الخارجية وتطبيق مشاريع هذه القوى بالعلن، وأصبح كل حزب طائفي مرتهن لقوى خارجية يتفاخر بدعمها له.

سياسة أدت إلى تفاقم الأزمة الاقتصادية والسياسية والمجتمعية، وكانت أولى بوادرها مسألة النفايات التي غطت بيروت وضواحيها، بعد أن شح المال السياسي عن القوى السياسية – الطائفية اللبنانية. تظاهر معظم اللبنانين رافضين هذا الواقع المزري الذي وصلوا إليه، وعملت السلطة السياسية – الطائفية على قمع المظاهرات والاحتجاجات وتشتيت أهدافها، واستكملت مسيرتها المعتادة من دون الأخذ بمتغيرات الأرض. ومن ثم أتت الأزمة الاقتصادية وانهار الاقتصاد اللبناني، الذي في الأصل لم يكن اقتصاداً مبنياً على أسس صحيحة،  وزاد شح المال السياسي المتدفق من الخارج، ونهب النظام السياسي لأموال الناس، فما كان من السلطة إلا أن استكملت نهب أموال المودعين وسرقة أموال الشعب، فانتفض جزء من الشعب في 17 تشرين رافضاً كل من هم في السلطة.

كالمعتاد قمعت السلطة السياسية الانتفاضة واستكملت مسيرتها في نهب أموال الشعب، فأتى الاستحقاق للانتخابات النيابية، وهنا كانت (اللعبة) التي أطاحت بالهيمنة المطلقة لأركان السلطة الطائفية وهزت عروشهم. واعتقد أركان السلطة السياسية ما قبل الانتخابات النيابية أن باستطاعتهم إنتاج نفسهم من دون أي خروقات تذكر، ولكن أتت النتائج بعكس ما خططوا له على الرغم من كل التزوير في نتائج الأصوات. فقد أفرزت متغيرات الأرض 13 مقعداً نيابياً من خارج كل الأحزاب الطائفية السياسية المهيمنة على السلطة من تسعينيات القرن الماضي. 13 مقعداً من أصل 128 مقعداً. قد يقول البعض إن هذه نسبة قليلة، وهذا صحيح لكن هذه المرة الأولى التي تكسر فيها هيمنة القوى التقليدية الطائفية على المجلس النيابي. وبالنسبة للأحزاب الطائفية التقليدية كسرت مسألة الأكثرية النيابية.

انتخابات سوف تفرز تحالفات جديدة في المجلس النيابي! وها قد بدأ البعض يستعد للمعركة بطروحات تشير إلى مدى صعوبة المعركة القادمة على كل الصعد! وعقد مجلس الوزراء جلسته الأخيرة وأقر فيها بعض القرارات التي سوف يتحمل مسؤليتها المجلس القادم، ومنها على سبيل المثل لا الحصر رفع تكلفة الاتصالات!

وقد يكون أول أستحقاق أمام المجلس الذي سوف يبدأ مهامه بعد أيام قليلة مسألة انتخاب رئيس مجلس النواب. وقد بدت مؤشرات التضارب في المسألة التي دامت عقود من الزمن من دون أي خلافات تذكر! ومن ثم مسألة نائب رئيس المجلس! وقد تكون المعركة الأكبر تشكيل حكومة! وتليها رئاسة الجمهورية! استحقاقات سوف تجري في ظروف لا طبيعية بمجلس نيابي منتخب كرست فيه محرمات ولو لفظياً.

ومن ناحية أخرى انسحاب سعد الحريري من الانتخابات النيابية خلق نوعاً من الأجواء التي ساهمت بخرق المجلس النيابي من قبل قوى معارضة لكل السلطة القائمة. وهنا يطرح السؤال، بالعودة إلى نظرية اللعبة، هل سعد الحريري، بما يمثله من قوى خارجية، بانتظار نتائج كل هذه الاستحقاقات المفصلية في السياسة اللبنانية ليأتي بدعم خارجي ليمثل منقذاً للاقتصاد والنظام السياسي في الانتخابات القادمة؟ وبهذا قد يكون حقق (رابح – خاسر) في السياسية اللبنانية؟

لكن كل المعطيات تشير إلى أن الأيام القادمة سوف تكون أياماً مرهقة وصعبة في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية في لبنان، فها هو سعر الدولار يصل إلى أعلى سعر صرف له، وقد فقد الخبز من الأسواق، ولا كهرباء، وسعر صفيحة البنزين وصلت إلى حدود 600 ألف ليرة لبنانية، وأموال المودعين ما زالت نهوبة، والانهيار الاقتصادي ما زال مستمراً، والقوى السياسية ما زالت متناحرة، والتدخلات الخارجية ما زالت تمثل القوى الكبرى في رسم السياسيات الداخلية بما يتوافق مع مصالحها، و(المعارضات) التي فازت بـ13 مقعداً نيابياً ليست بمعارضة ذات برنامج واضح… والأجر الشهري للموظف لا يكفي شراء صفيحتي بنزين!

هل سينفجر الشارع اللبناني مجدداً؟ أم ستعمل السلطة السياسية على قراءات المتغيرات التي أفرزتها الأرض لتتعامل معها بشكل علمي لاستيعاب ما حصل؟ هل سوف تنجح القوى المعارضة في بلورة موقف إنقاذي موحد وتعري السلطة السياسية الطائفية التقليدية لتمتن موقعها في الانتخابات النيابية القادمة وحينئذٍ يكون في استطاعتها فرض برنامجها الإنقاذي؟ حتى اللحظة ما من شيء واضح سوى أن القوى التقليدية بدأت تفقد هيمنها على السلطة السياسية، وأصبحت صناديق الاقتراع تفرض وجودها. ها قد بدأت لحظة هيا بنا نلعب لفهم قوانين اللعبة من أجل الفوز بها.

العدد 1104 - 24/4/2024