اكذب اكذب.. ثم اكذب!

أحمد ديركي:

يعتبر بعض علماء النفس أن الكذب من صفات الإنسان! وقد يكون أكثر المؤيدين لهذه الحالة النفسية أتباع المدرسة السلوكية، معتمدين في بناء نظريتهم هذه على قاعدة التشابه ما بين السلوكيات الإنسانية والحيوانية. ويعود هذا وفقاً لهذه المدرسة لنظرية النشوء والارتقاء التي وضها تشارلز دراوين.

فالكذب عند الإنسان لدى المدرسة السلوكية يعتبر إحدى وسائل نجاة الإنسان من حالات قد تؤدي إلى نجاته من الموت، والأمثلة على هذا السلوك الإنساني متعددة، ومنها على سبيل المثال لا الحصر، في أحيان كثيرة يدّعي الإنسان أنه ميت كي لا يفترسه حيوان، أو يدعي بأنه مصاب كي يفلت من عقاب ما، أو يدعي أنه مريض كي لا يقوم بعمل ما.. هذا السلوك (الادعائي) نوع من أنواع الكذب. ولا يتوقف الأمر عند المدرسة السلوكية في مقاربتها صفة (الكذب) عند الإنسان، بل يطاول معظم مدارس علم النفس، ولكن المثال الأبرز هو المدرسة السلوكية.

فأصبح الكذب أمراً مألوفاً في المجتمعات البشرية منذ بداية التأريخ، لا التاريخ، وحتى هذه اللحظة. وأصبح هناك أنواع متعددة للكذب مع تطور المجتمعات البشرية وصولاً إلى حد تصنيف الكذب، وهي حالة مشهور بمثال عربي ومن هذه التصنيفات وجود كذبة (بيضاء)، وكذبة (لا بيضاء)، والمثل الشعبي القائل (الكذب ملح الرجال وعيب على من يصدق). ولا يتوقف الأمر على المجتمعات العربية في مسألة الكذب بل يطول كل المجتمعات البشرية.

ولكن ما يمكن لحظه أن تطور المجتمع البشري، برمته بغض النظر عن مدى تطوره، أدى إلى نشوء كيان سياسي يعرف حالياً باسم (الدولة).

كيان قائم على تقسيمات وظائفية متتعدة وأجهزة متععدة متعاونة في ما بينها لإدارة الشأن الاجتماعي، بغض النظر عن كيفية إدارته لها ومدى توافق هذه الإدارة مع ما يطمح إليه الشعب. وقد يكون واحد من أهم هذه الأجهزة في الدولة، بمفهومها الحديث، هو الجهاز القضائي. جهاز يقوم على قانون واضح وصريح لا يميز بين كثير من الأمور، رغم كثرة ثغراته، ومن الأشياء التي لا يميز فيها، على سبيل المثال أن القاتل المتعمد القتل يجب أن يُحاكم. وفقاً لنص قانوني واضح وصريح يتعلق بجرائم القتل، وكذلك السارق، وكذلك من لا يقف على اشارة السير الحمراء… ولكل حالة من الأحوال الانتظامية للمجتمع في ظل نظام الدولة قانونها الناظم من لحظة الولادة الإنسان إلى لحظة وفاته، وحتى ما بعد وفاته، على سبيل المثال مسألة الإرث بعد وفاة الشخص.

ما يميز هذا الجهاز، أي الجهاز القضائي، عدم الكذب! وغالباً ما يصنف على أنه (النظام النزيه)، فالكذب ضمن هذا الجهاز يمكن أن ترقى عقوبته إلى حد الجريمة! فكيف للكذب أن يرتقي إلى حد الجريمة وهو صفة بشرية؟

تنتفي مسألة عقوبة الكذب ويتحول الكذب إلى حالة (طبيعية) وفضيلة عندما يرتكب النظام السياسي جريمة! ومن أبرز الأدلة على هذا الأمر جرائم الكيان الصهيوني بحق الشعب الفلسطيني بخاصة، والعربية بعامة. فقد بدأ الكيان الصهيوني بارتكاب جرائم بحق الشعب الفلسطيني منذ نشوئه، وما زال يرتكب جرائمه بشكل يومي، وحتى الآن لم يُدَن. فكل (المحاكم) المقامة لمحاكمة مرتكبي الجريمة لم تُدِن ولو جندياً صهيونياً على أنه ارتكب جريمة. فكيف لها أن تدينه والجندي يخدم النظام السياسي المسؤول عن الجهاز القضائي. فهل أدين أي صهيوني في مذبحة دير ياسين؟! بالتأكيد كلا. هل أُدين أي جندي صهيوني يقتل فلسطينياً مقاوما أو غير مقاوم؟ كلا.

لم تتوقف الجرائم الصهيونية ضد الشعب الفلسطيني، بل لنأخذ لبنان على سبيل المثال، هل أًدين أي جندي صهيوني في مذبحة حولا؟ كلا. هل أُدين أي جندي صهيوني في مجزرة قانا، والتي كانت تحت نظر الأمم المتحدة؟ كلا. واللائحة تطول.

للأسف لا يقتصر الأمر على هذا الحد، بل يذهب إلى أبعد منه. فالأنظمة العربية التي ارتكب الكيان الصهيوني مذابح بحق شعبها لم تقم بأي خطوة (قضائية)، وإن فعلت لا تتابعها، لمعاقبة الكيان الصهيوني! وللأسف أيضاً تفعل العكس! فها هي ذي يوماً بعد يوم (تطبّع) العلاقات مع الكيان الصهيوني، وتلغي ذكر الجرائم المرتكبة بحق الشعب العربي والفلسطيني ضمناً، والكيان يستمر في ارتكابه الجرائم ضد الشعب العربي والفلسطيني. وللأسف أيضاً حتى الأنظمة غير (المطبعة) مع الكيان الصهيوني، تتعامل مع الأنظمة (المطبعة) وكانها لم تتركب أي جريمة بحق شعبها ولم تخن القضية الفلسطينية!

ما دام الجهاز القضائي يكذب في المسائل التي تتعلق بالأنظمة السياسية ويتماشى مع أهوائه فلماذا يعاقب هذا الجهاز القضائي من يكذب من الشعب؟ ولم هناك عقوبات تتعلق بشهادة الزور وألف لماذا توجه إلى الجهاز القضائي، فيم يتعلق بمسألة الكذب. فلتعترف الأنظمة السياسية أينما كانت بأنها أنظمة تكذب كما يكذب البشر، والجهاز القضائي يكذب كما يكذب البشر!

وليكن الشعار: (اكذب اكذب.. ثم اكذب!) ما دام الكذب يحمي النظام القائم، وبخاصة النظام الصهيوني!

العدد 1105 - 01/5/2024