رهائن لدى الفكر البرجوازي

د. أحمد ديركي:

عند قراءة التاريخ، وفقاً للمناهج التعليمية، وخارجها، يظن المرء أن التاريخ ما هو إلا سرديات لأبطال حقّقوا إنجازات لا يمكن للإنسان العادي أن يحقّقها، ولا تذكر كتب التاريخ سوى (الأبطال) والمنجزات التي تحقّقت على أيديهم.

فيختصر (علم التاريخ) من خلال هذا الأسلوب بأسماء (مشهورة) تاريخياً بعضها محلي، أي على مستوى بقعة جغرافية محددة بحدود سياسية، كما هو حالياً أي ضمن (دولة) بالمعنى الحديث، أو أسماء (مشهورة) تخطت حدود هذه البقعة المحددة لتصبح (إقليمية)، وفي بعض الأحيان (عالمية). حتى قديماً، أي قبل نشوء مفهوم الدولة، بمفهومها الحديث، كان الأمر مشابهاً لما هو عليه التاريخ اليوم.

من خلال هذه المقاربة يدرّس التاريخ على أنه، بعامّة، أحداث حدثت في الماضي السحيق أو الماضي القريب. فالتاريخ وفقاً لهذا المنهج تاريخان: تاريخ ماضي سحيق، مفعم بالأحداث البطولية التي عفا عليها الزمن، وتاريخ حديث، أيضاً مفعم بالأحداث البطولية، ولم يعفُ عليها الزمن حتى الآن.

فعلى سبيل المثال هناك تاريخ الإمبراطورية الرومانية، يصنف على أنه تاريخ سحيق ومعرفته غير ضرورية، لعدم علاقته بالماضي القريب أو الحاضر، ويصبح نوعاً من (الثقافة العامة) لمن يرغب. وهناك تاريخ حديث، وأكثر ما يذهب إلى تاريخ نشوء الدول وبخاصة دول العالم (الثالث)، على اعتبار أنها (حديثة النشوء). ومن المضحك المبكي في دراسة هذا الجزء من التاريخ للدول (حديثة النشوء) وجود قفزات كوانتية، لربط ما تريد السلطة السياسية الحاكمة ربطه بين الماضي السحيق والحديث.

قفزات كوانتية تجعل من قارىء كتاب التاريخ الرسمي يشعر وكأنه يجول في آلة السفر عبر الزمن، ولكنها فيها عطل ما. والعطل في تعداد السنوات، فهناك أحداث وسنوات غير موجودة على تعداد السنوات في آلة الزمن.

فيحفظ أسماء (المشاهير) في التاريخ من الإسكندر المقدوني وصولاً إلى (المرحوم) أخيراً، منذ سنوات قليلة، ومنجزاتهم، وفي أحيان كثيرة مع الكثير من التفاصيل المتعلقة بهذا (المشهور)، أو القليل منها. وعند السؤال عن الظروف التي أدت إلى تشكل هذا (المشهور) أو ذاك، بعيداً عن كم التفاصيل التي يحفظها عنه، تضيع الأمور ويدخل من يتبع هذا المنهج في مقاربة التاريخ، في متاهة لا مخرج منها.

كل هذه الأمور مع المزيد والمزيد من الأمور الأخرى تجعل من دراسة التاريخ كما هو هو معمول بها دراسة سردية مملة لا غاية منها سوى الحفظ والتحدث عن (أيام الماضي الجميل)، وكأن كل أحداث هذا (الماضي الجميل) كانت كالعيش بالنعيم ويمكن تكرارها اليوم مع بعض من التغييرات الطفيفة التي يمكن أحداثها اليوم لنعيش الأمس باليوم. على سبيل المثال بدل أن نحارب بالسيف والترس لتحقيق الماضي الجميل يمكن أن نحارب بالأسلحة الحديثة!

إلا أن حقيقة الأمر مختلفة عن هذا الواقع المتصور عن مفهوم التاريخ. فهذا المفهوم مفهوم إيديولوجية السلطة الحاكمة، يتيح لها أن تبقى في موقعها السلطي وتمتن الموقع لحليفتها الطبقية الطبقة البرجوازية. لذا تلعب القفزات الكوانتيه دوراً فاعلاً في تمتين الطبقة البرجوازية والسلطة الحاكمة وتشويه الوعي الطبقي، ويستحضر التاريخ، بالمفهوم البرجوازي، في أية لحظة ليعمل في خدمتها. فيصبح التاريخ إحدى أدوات الهيمنة للطبقة البرجوازية على عقل المجتمع بعامة، والطبقة العاملة بخاصة.

التاريخ ليس كما تصوره وتمنهجه الطبقة البرجوازية والسلطة الحاكمة، بل هو (العملية التطورية للإنسان نفسه. وأصبح الآن من واجب الذهن أن يتعقب المسير التدريجي لهذه العملية خلال سائر طرقها الملتوية، وأن يبين القانون الباطن الذي يجمع سائر ظواهرها الطارئة ظاهرياً) (فردريك انجلس، أنتي دوهرينغ، ص. 30).

فهل تتوافق هذه المقاربة للتاريخ مع المقاربة البرجوازية له؟ بالتأكيد كلا. لأنها نقيض لها. فلنعمل على قراءة تاريخنا، كحد أدنى، انطلاقاً من مقاربة إنجلس كي نفهم واقعنا الراهن وأسباب وجودنا في هذا الموقع والواقع، ونعرف ونبيّن (القانون الباطن) الذي يحكمنا. فمن دون معرفة هذا (القانون الباطن) سوف نبقى رهائن لدى الفكر البرجوازي، نتخبط فيه ونظن أننا نقيضه!

العدد 1105 - 01/5/2024