النهضة ودور العلوم الإنسانية

يونس صالح:

يعيش العالم الآن عصراً تكتسب فيه الدول مكانتها من حيث القوة والنفوذ، طبقاً لما تسهم به وتحصل عليه من بحوث علمية متطورة، تعزّز بها تقنيات متقدمة تدرّ على مستثمريها ثروات ضخمة، وتستجلب أنماطاً من المجتمعات الحديثة قادرة على المنافسة في كل المجالات.. لكن إدراكنا لهذه الحقيقة- ونحن نتطلع إلى اللحاق بالآخرين- ينبغي أن لا ينسينا أن هذا العصر لم ينهض على أكتاف التقدم في العلوم الطبيعية وحدها، فالعلوم الإنسانية وما يكتنفها ويحيط بها من آداب وفنون وفكر، كانت ملازمة لذلك النهوض، بل كانت مقدمة لفجر هذا النهوض، وهو أمر ينبغي ألا نغفل عنه، مهما كان حماسنا لعصر العلم.

يفهم البعض عندنا أن نداء النهوض يقف عند حدود النهوض بالعلوم الطبيعية والتغافل من النهوض في حقل العلوم الإنسانية، وهذا نوع خطير من الفهم إن أغلقنا نداءاتنا عليه. إن النهوض في مجالات العلوم الإنسانية لا يقل أهمية عن النهوض في مجالات العلوم الطبيعية. إن تاريخ النهضة الأوربية التي أوصلت الغرب وبعض دول الشرق المتقدمة إلى ما هي عليه الآن، يخبرنا- هذا التاريخ- بأن نهضة الفنون والآداب والفكر، كانت الطليعة التي اخترقت ظلمات العصور الوسطى الأوربية خروجاً إلى الضوء، الذي توالت في غماره عصور النهضة والتنوير والثورة الصناعية، ومجتمعات ما بعد الصناعة التي يحيط بها الآن هذا العصر الذي هو حقاً عصر العلم.

لا شك أن عصر النهضة الأوربي كان المدخل الذي عبر عنه الغرب إلى نهوضه الحالي، كما أن نهوض بعض الدول الآسيوية مدين لهذا النهوض الغربي بما تحقق في الغرب أولاً من نهوض علمي وتقني.

إن عصر النهضة المعني هنا هو مصطلح يطلق على فترة انتقال من العصور الوسطى الأوربية إلى العصور الحديثة، وهذه الفترة تشمل القرون من الرابع عشر إلى السادس عشر الميلادي، ويؤرخ لها في الغرب بسقوط القسطنطينية عام 1453 على أيدي العثمانيين، حيث نزح كثير من العلماء حاملين معهم تراث اليونان والرومان الذي غاب عن الغرب إبان ظلمات العصور الوسطى الأوربية، كما يدل مصطلح عصر النهضة على التيارات الثقافية والفكرية التي بدأت في البلاد الإيطالية في القرن 14م، حيث بلغت أوج ازدهارها في القرنين 15 و16، ومن إيطاليا انتشرت هذه النهضة إلى فرنسا وإسبانيا وألمانيا وهولندا وإنكلترا وإلى سائر أوربا. لقد أكدت ملابسات القرن الرابع عشر في إيطاليا على أهمية الإنسانيات كمدخل لاختراق التخلف الذي ساد طويلاً ومعبر إلى التقدم والنهضة، وهذا ما كان في شأن النهضة الأوربية، ولابد هنا من الإشارة إلى أن الترجمة، بما تنطوي عليه من معرفة باللغات الأجنبية، وهي فرع من العلوم الإنسانية، كانت أداة فاعلة في منجزات عصر النهضة الذي تصاعدت أضواؤه بعد القرن الرابع عشر.

ويبقى في التأكيد على أهمية الإنسانيات كطليعة للنهضة وأداتها الأساسية، أنها الوعاء الحافظ للخصوصية، يستفيد من منجزات النهوض، ويقوى بها، ويحيط الهوية القومية بسماتها الخاصة من تراث ثقافي يتجدد ويظل أصيلاً بعد تجدده، وهو أمر نراه جلياً في تجارب النهضة الآسيوية المعاصرة، ومثالها الأبعد هو اليابان، أما مثالها الأقرب فهو ماليزيا.

إن دراسة تاريخ وإبداعات تجارب الأمم التي تسبقنا في مضمار التقدم العلمي والحضاري، تؤكد لنا أن النهضة العلمية والحضارية تقودها إبداعات وأفكار المفكرين والفلاسفة والفنانين والشعراء والأدباء الذين يرسمون الطريق بأفكارهم ورؤاهم المتخيلة للمستقبل، فالعلوم الحديثة وقبلها القديمة، جاءت أولاً في مخيلة المبدعين من كتّاب وفنانين وشعراء مهدوا الطريق للعلماء والباحثين والصناعيين.

ونحن اليوم أحوج ما نكون إلى أن نطلق العنان لأصحاب الفكر والفن والأدب ليمهدوا طريق النهضة التي طال انتظارها.

 

العدد 1105 - 01/5/2024