مرحلة انتقالية إلى عالم جديد

د. صياح عزام:

إذا ما عدنا إلى أوائل القرن العشرين وما جرى لبريطانيا العظمى، فقد بدأ يظهر عليها الإجهاد، وبسبب هذا الإجهاد، تشجعت قوى وكيانات أخرى تشعر بأن لديها فائض قوة لتتحدى به بريطانيا العظمى، ومن هذه القوى آنذاك ألمانيا وإيطاليا واليابان.

في تلك الحقبة من الزمن، كان العالم يعيش أزمة عامة 1929 التي أدت إلى قيام الحرب العالمية الثانية.

بعد الحرب العالمية الثانية، سلّمت بريطانيا راية قيادة العالم إلى الولايات المتحدة الأمريكية، التي تقاسمت هذه الراية مع الاتحاد السوفييتي.

وبعد انهيار الاتحاد السوفييتي وتفككه، تفردت الولايات المتحدة بقيادة العالم وإدارة شؤونه والهيمنة عليه، دون أن تسمح لأحد بمشاركتها في هذا الشأن، وخلال تلك الفترة من التفرد أصبح أي قرار يصدر على مستوى الكرة الأرضية تتحكم واشنطن به، إما بشكل مباشر أو غير مباشر، ساعدها على ذلك اقتصادها القوي، خاصة بعد أن جعلت من الدولار العملة الأساسية في العالم بأسره، وبعد أن هيمنت على المؤسسات الدولية، بمعنى أوضح أصبحت الولايات المتحدة هي المهيمن الأوحد على العالم.

حتى وقتنا هذا لايزال الاقتصاد الأمريكي يحتل المرتبة الأولى عالمياً، رغم التراجع الكبير بحجم حصته من الناتج الإجمالي لاقتصاد العالم، وقد بلغ حوالي 47٪ في النصف الثاني من القرن الماضي، تراجع إلى حدود 22٪ في هذه الأيام.. وهذا يعني أن علامات الإجهاد بدأت تظهر على الولايات المتحدة.

من مظاهر التراجع الأمريكي الملموسة، أنه أصبح من الصعب على أمريكا أن تفي بوعودها وتعهداتها لحلفائها وأعوانها وعملائها الذين يقدمون لها الكثير من الخدمات، ويؤمنون لها مصالحها على حساب شعوبهم، لقاء أن تضمن لهم حماية أنظمتهم وعروشهم، بعد تراجع حصة الولايات المتحدة من الاقتصاد العالمي كما أشرنا إلى ذلك قبل قليل، لذا أصبح واضحاً عجزها وتقصيرها الكبير تجاه الحلفاء والأعوان.

وبناء على ذلك وعلى مؤشرات أخرى ليست قليلة، فإن أمريكا على وشك أن تتخلى مجبرة عن قيادة العالم منفردة، فالمرحلة التي تعيشها تشبه المرحلة التي عاشتها بريطانيا العظمى (مرحلة الإجهاد) قبل تسلميها الراية لواشنطن.

والسؤال: ما هي أوجه الشبه أو العلامات المشتركة بين الإمبراطورية العظمى سابقاً (بريطانيا) والولايات المتحدة؟

1- الديون٬ وصلت ديون الإمبراطورية البريطانية خلال النصف الأولى من القرن العشرين وحتى الحرب العالمية الثانية إلى 200٪ من الناتج القومي. اليوم بلغت ديون الولايات المتحدة 120٪ من الناتج القومي الأمريكي.

2- وأمام تصاعد الناتج القومي للصين ليصل إلى 18 تريليون دولار، بدأت تتضح عدم الرغبة الأمريكية في مواجهة أعدائها، كما كان الأمر سابقاً.

3 الانقسام الأمريكي الداخلي الحاد والذي ظهر علناً رغم كل المحاولات لإخفائه أثناء الانتخابات الرئاسية الأخيرة، وما أعقبها من أحداث شغب وعنف، وصلت إلى حد اقتحام الكونغرس الأمريكي والعبث بمحتوياته (احتجاجاً على ما وصف بالتزوير لصالح بايدن).

وهكذا لو أسقطنا ما جرى لبريطانيا العظمى على واقع أمريكا اليوم، نرى أن النظام الأمريكي يمر بمرحلة شبيهة بالمرحلة التي مرت بها الإمبراطورية البريطانية العظمى قبل تخليها عن قيادة العالم لأمريكا.. علاوة على ذلك، فإن سنن التاريخ وأحداثه تؤكد أنه عندما تتراجع القوى الكبرى عن مواقعها، فإنه لا بد، بل من البديهي، ظهور قوى أخرى وكيانات جديدة تتحدى الدول الكبرى وتسعى لإزاحتها عن كرسي التربع على قيادة العالم والتحكم بقرارته ومصادرة إرادته، وخير مثال على ذلك صعود روسيا والصين وغيرهما.

الخلاصة.. هناك فترة زمنية تسمى بالمرحلة الانتقالية تقع ما بين نظام قديم يتآكل ويموت، ونظام جديد آخذ في التشكل، وقد أصبحت ملامحه الرئيسية بارزة للعيان.

 

العدد 1105 - 01/5/2024