محاولات انتخابية

د. أحمد ديركي:

يمتاز لبنان بنوع من (الديمقراطية) التي هي في ظاهرها ديمقراطية، وفي عمقها تشويه للديمقراطية، وبخاصة بعد أن اتفق على ما يعرف بـ(الديمقراطية التوافقية). وما هذه الصيغة إلا صيغة (وهمية) ابتدعتها إيديولوجية السلطة السياسية، وحليفتها الطبقة البرجوازية، لتشويه الوعي الطبقي لتكريس التقسيمات (الطائفية) وإبقاء المجتمع المتكون حديثاً مجتمعاً مقسّماً على أسس (طائفية) تخفي أبعاده الطبقية وطبيعة الصراع الطبقي فيه.

ومن خلال هذه الصيغة (الديمقراطية التوافقية) يمكن للسلطة السياسية أن تستغل هذا التشويه الإيديولوجي، الذي قسمت المجتمع على أساسه، إلى طوائف متناحرة على المستوى الأفقي، ومتحالفة على المستوى العمودي، لإشعال حروب (طائفية) الشكل عندما يكون هناك أي تهديد للطبقة السياسية وحليفتها الطبقة البرجوازية. تهديد ينبع من بدايات تشكل وعي طبقي، وإن كان هذا التشكل غير مكتمل لأسباب متعددة، ومن أبرزها غياب الأحزاب السياسية بالمعنى الصحيح للحزب السياسي. وبهذا تضرب السلطة السياسية من خلال أجهزتها، وليس بالضرورة القمعية، بل كل أجهزة السلطة السياسية وما أكثر هذه الأجهزة، أي بذور تحرك أو اعتراض أو شكل من أشكال الاحتجاج، لتحوله من بذور تشكل بدايات وعي طبقي لا طائفي، إلى حراك أو اعتراض أو احتجاج طائفي، يأخذ شكل طائفة ضد طائفة.

وما أكثر هذه المشاهد على الساحة اللبنانية! إلا أن ما حدث أخيراً ما يعرف بحراك 17 تشرين الأول، شكّل نوعاً من بذور الوعي غير المشوّه. ولا يعني هذا أن هذا الحراك وليد لحظته، بل ناجم عن تراكمات رافقت لبنان منذ نشوئه إلى غاية الآن.

وها هو ذا لبنان اليوم على أبواب انتخابات نيابية، يقال يمكن أن تؤجل في اللحظات الأخيرة. التأجيل، تتداخل فيه العوامل الداخلية مع الخارجية، كما حدوث الانتخابات تتداخل فيه العوامل الداخلية مع الخارجية. وقد يكون أكثر ما تخشاه السلطة السياسية وحليفتها الطبقة البرجوازية، سواء كان هناك انتخابات نيابية أم لا، بعيداً عن العوامل الخارجية، هو العامل الداخلي المستجد على الساحة اللبنانية. فقد بدأ زعماء السلطة السياسية المتوارثون لها، وغير المتوارثين لها، يستشعرون نقاط ضعف قد تهدد وجودهم كقوى وحيدة على الساحة السياسية. فأقرّت قانوناً انتخابياً محكماً يعمل على إعادة انتخابهم. لكن رغم كل هذه القوانين هناك الكثير من الأحاديث حول خرق هذه اللوائح للأحزاب الطائفية من قبل وجوه جديدة.

فالأحزاب اللبنانية، وبخاصة بعد انتهاء الحرب الأهلية في لبنان، أحزاب طائفية، وبهذا ليست بأحزاب سياسية، بل أحزاب قبلية وعائلية وطائفية، وهذا ما يتناقض مع مفهوم الدولة الحديثة. لذا لا يمكن أن يصنف الحزب الطائفي، أو الديني بعامة، على أنه حزب سياسي بالمعنى الصحيح. وكل هذه الأحزاب منخرطة في تشكيلة النظام منذ انتهاء الحرب الأهلية وما قبلها، وجميعها، القديم والجديد، لا يملك مشروعاً سياسياً أو اقتصادياً أو اجتماعياً، بل جميعهم شركاء في بنية النظام السياسي الطائفي التحاصصي، وجوهر الاختلاف فيما بينهم يكمن في عملية تحاصص السلطة السياسية ليدعم كل منهم الطبقة البرجوازية الداعمة له. هذا على المستوى الداخلي، أما على المستوى الخارجي فكل حزب من أحزاب السلطة الطائفية يعمل وسيطاً لمصلحة السلطة السياسية الخارجية الداعمة له.

من ناحية أخرى الحراك الذي بدأ في 17 تشرين الأول لا يملك مشروعاً لمواجهة هذه السلطة السياسية الطائفية التحاصصية، بل كل ما يملكه مسألة (رفض) لما هو قائم من دون خطط بديلة. وهنا تكمن خطورة تحركات كهذه، والذنب ليس ذنبها، بل ذنب الأحزاب السياسية التي غابت وتغيب عن ساحات الحراك الاجتماعي وتأثيرها في القاعدة الشعبية لبناء مشاريع بديلة عما هو قائم.

فهل يمكن للانتخابات النيابية إن حدثت أن تحمل في طياتها بذوراً تغييرية؟ هذا ما يعوّل عليه، ولو كانت مجرد بذور، وإن دخلت الأحزاب السياسية بتحالفات مع الأحزاب الطائفية السلطوية تكون قد قضت على آخر أمل لقيام أحزاب سياسية لا طائفية!

العدد 1105 - 01/5/2024