حول شروط قيام مجتمع المعرفة

يونس صالح:

نجح الإنسان في عصر الصناعة في صنع آلات تنوب عنه عضلياً، لإنجاز مهام عديدة، بكفاءة أكبر وأسرع وبمجهود أقل، ولم نكن نحن إلا مستهلكين وتابعين خلف المنتجين، وقد فقدنا الكثير من الفرص التي لم نستثمرها كمشاركين للمنتجين في عصر الصناعة.

ومع ولوج عصر الصناعة في عصر التكنولوجيا الدقيقة، أخذت المنتجات الصناعية تتجه نحو التصغير والتصغير المتناهي، فكان الكمبيوتر الذي لم يتوقف عن التسارع والدقة، وصارت هذه الآلة بفضل إنجازات الذكاء الاصطناعي آلة معالجة المعارف، وتقوم بتمثيل المعرفة والتنقيب عنها في مناجم البيانات، فهي آلة ذكية تقرأ وتسمع وتميز الأشكال، وتفهم وتحل المسائل وتبرهن النظريات وتتخذ القرارات.. إلخ.

ولأن هذه الآلة لم تكفّ عن التطور بل تنتظرها قفزات مذهلة، فإن انفجاراً معرفياً يتحقق ويزيد فيضانه مع إنجازات تقنيات الإنترنت والاتصالات الفضائية وغيرها.

باختصار، هناك طوفان من المعلومات الرائدة، وهناك سعي جبار للسيطرة على هذا الطوفان لتأهيل البشرية لنوع جديد من التحدي المعرفي، فأين نحن من كل ذلك؟

إننا نحيا ونمضي في الركب متفرجين ومستهلكين، ولم يعد هذا- كما في عصر الصناعة- يكفينا للاستمرار، لأن ثمة فجوة تتكون، هي الفجوة الرقمية، الدالة على الفارق بين من يمتلك المعلومة ومن يفتقدها، والتي تتسع بداهةً في حقل من لا ينتج المعلومة أو لا يشارك في إنتاجها، مما يهدد هذا الحقل بأن يتحول إلى أرض يباب، لا تعطي زرعاً ولا عشباً.

إن إنتاج المعلومة وامتلاكها واستثمارها معرفة وتطبيقاً، صارت هي الثروة الجديدة في العالم اليوم، وهذا يعني أننا سنكون متأخرين حقبتين كاملتين من حقب تطور المجتمعات الحديثة، إن لم نتدبر أمورنا ونلحق بمجتمع المعرفة.

ويتحدث الخبراء في هذا السياق عن ضرورة توفر خمسة شروط لقيام مجتمع المعرفة عندنا أو خمسة أركان لتحقيق هذا الحلم وهي:

* إطلاق حريات الرأي والتعبير والتنظيم وضمانها قانونياً وممارسةً.

* النشر الكامل للتعليم راقي النوعية مع إيلاء عناية خاصة لطرفي المتصل التعليمي وللتعليم المستمر مدى الحياة.

* توطين العلم، وبناء قدرة ذاتية في البحث والتطوير التقاني في جميع النشاطات المجتمعية.

* التحول الحثيث نحو نمط إنتاج المعرفة في البنية الاجتماعية والاقتصادية عندنا.

* تأسيس نموذج معرفي عام متفتح ومستنير.

خمسة بنود قدمها الخبراء لإصلاح السياق المجتمعي لاكتساب المعرفة وتقوية منظومة اكتساب المعرفة ذاتها، وصولاً إلى الهدف وهو إقامة مجتمع المعرفة، وسأتناول البنود الثلاثة الأولى لأهميتها البالغة.

إن أول البنود هو بند حريات الرأي والتعبير والتنظيم، والسؤال المطروح ما علاقة الحريات بالمعرفة، إذ إن هناك التباساً تاريخياً أوحى بأن تحقيق تقدم معرفي في مجال التقانة قد يتم في ظل (ديكتاتوريات مستنيرة)، كما حدث في العديد من البلدان مثل كوريا قبل استقرار الليبرالية فيها، وإندونيسيا في ظل الحكم العسكري أو غيرهما، إلا أن ذلك لا يمد الإنجاز المعرفي إلى مجالات أساسية كالعلوم الإنسانية والمجتمعية والفنون والآداب، وهي أساس لأي تقدم ونهضة معرفية، كما أن المعرفة تبقى مجرد بقع منعزلة في نسيج المجتمع، مما يهدد هذا النسيج بالاهتراء.

إذاً، الحرية هي شرط أساسي للتقدم المعرفي الصحيح والقابل للاستمرار والانتشار خلال نسيج مجتمع معافى ومتجانس، وهنا لابد من إحاطة شرط الحرية بسياجات محددة وحامية، فيبرز شرط احترام القانون، إذ إن القاعدة القانونية هي الأساس الوحيد لضبط السلوك الإنساني عامة، وقيام قضاء نزيه وسليم وكفء، ومستقل بلا شك، يقوم على تنفيذ أحكام القانون بلا انتقاء ولا استثناء، ومن ثم يحقق الاحتكام إلى القانون محيطاً آمناً للإبداع المعرفي لا شك فيه.

أما البندان الثاني والثالث من أركان قيام مجتمع المعرفة فهما لا ينفصمان، بل هما متكاملان، فإذا كان (الإنسان هو معيار الأشياء جميعاً) كما قال الإغريق، فإن هذا ينطبق أكثر ما ينطبق على منظور التنمية الإنسانية، وبديهي أن التعليم هو صلب عملية تنمية الإنسان، والمعرفة هي أداة التعليم المأمول، وكلاهما ليس سلعاً تستورد وتستخدم شأنها شأن السيارات أو الملابس أو غيرها، بل هما مرتبطان عضوياً بثقافة وبنى مؤسسية وأنشطة لابد أن تغرس في واقع مجتمعي بشري محدد، وتروى وترعى حتى تنمو متلائمة في هذا الواقع وتصير قابلة للعطاء المقبول والمرحب به من أبناء هذا الواقع. وقبل التحدث عن العلم يجب التحدث عن توطينه، وهو الأمر الأصعب، لأنه يتطلب أولاً إصلاحاً جذرياً للتعليم عموماً، وللتعليم العالي خصوصاً، ويتطلب ثانياً نسقاً للابتكار يتمركز متخللاً النسيج المجتمعي بكامله، متواصلاً مع امتدادات عالمية.

أما العلم نفسه فإصلاحه تطويره ليسا في حاجة إلى الكثير من الإيضاح، فهو يبدأ من القضاء على أشكال الحرمان من التعليم الأساسي، إلى ترقية نوعية التعليم لاكتساب ملكات التحليل والنقد التي تؤسس للإبداع والابتكار، إلى التركيز على التعليم العالي لأن إصلاحه يتوجه نحو الجذور، إذ إن ثمار التعليم العالي تتحول إلى معلمين جيدين وقادة للعلم رفيعي المستوى يحسنون رعاية البذور والجذور الجديدة وتنميتها في مراحل التعليم المبكرة.

أخيراً.. إن المعرفة لم تعد بضعة كتب أساسية كما كانت منذ عقود، فثمة انفجار معرفي حقيقي يولد انفجارات معرفية إضافية في كل يوم وساعة. ونحن نحتاج في هذا السياق إلى وجود أقوى في الاقتصاد ويدفع بالاستثمار الجديد- استثمار المعرفة، حيث القيمة المضافة أعلى وأسرع نمواً.

 

العدد 1105 - 01/5/2024