من ثقافة شعوب الشرق .. عيد نوروز وقصة (ممو وزين)

إبراهيم الحامد:

قصة حب قيل عنها: (نبتت في الأرض وأينعت في السماء)، وقعت أحداثها عام 1393 في جزيرة بوطان على ضفاف نهر دجلة، التي كانت تسودها الصراعات الطبقية والاجتماعية والظروف الاقتصادية السيئة مثلها مثل بقية الإمارات الكردية ذات النفوذ والجيوش الخاصة بها حتى أواسط المرحلة العثمانية وبدء الصراعات عليها بين الصفويين والعثمانيين. كتبها الشاعر الكردي أحمد خاني، الذي تعود أصوله إلى تلك الجزيرة، ولقد ترجمت إلى العربية على يد أبرز الشخصيات الدينية السورية الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي، كما ترجمت للعديد من اللغات العالمية. تبدأ الحكاية بحلم الأميرة (زين) وشقيقتها الكبيرة (ستي) بالتمرد على أعراف وقوانين القصر الكثيرة، كي تختلطا بعامة الشعب، عسى تلتقي كل منهما بفارس أحلامها الذي لا يضاهيه رجل في أنحاء الإمارة، ويتحررا من رتابة أعراف القصر وقوانينه، فقررتا المشاركة بعيد نوروز متنكرتين، لرؤية الفتيان، لأن خروجهن كأميرات مستحيلة. وفي صباح يوم العيد تباطأت زين وستي وتظاهرتا بالمرض، وما إن خلا القصر من معظم الحراس حتى خرجتا بزيّ الرجال، وغطّتا وجهيهما بوشاحين لا يظهر منهما سوى الأعين، وتجولتا بين المحتفلين، لكنهما لم تعثرا على شخص يليق بحبهما، وحين العودة حدث أمر غريب وظل لغزاً لأيام وليالٍ، وقلب حياتهما رأساً على عقب، فلقد رأتا جاريتين تسيران بخفة ورشاقة نحوهما، وما إن وقفتا وجهاً لوجه والتقت الأعين بالأعين حتى غابت الجاريتان عن الوعي وسقطتا أرضاً، دون أن تجد الأميرتان تفسيراً لذلك، لقد كان وقع تلك النظرات المتبادلة بينهم قوياً، ولضيق الوقت وبعد أن خيم الظلام كان لا بد من الإسراع في العودة إلى القصر قبل وصول الأمير، لذا استبدلتا خاتميهما المرصعين بالألماس مع خاتمي الجاريتين، لتهتديا إليهما لاحقاً وتعرفا سر الجاريتين. عادت الأميرتان إلى القصر، وصحت الجاريتان من الغيبوبة، والحقيقة ما كانتا سوى شابين قد تنكّرا بزيّ النساء أملاً منهما برؤية الأميرتين اللتين ذاع صيتهما في أنحاء الإمارة، كان الأول هو ابن وزير ديوان الملك، المعروف بشجاعته وفروسيته يدعى تاج الدين، والآخر هو صديقه الصدوق والمحارب المقدام ممو ابن العامل في الديوان ومن طبقة اجتماعية أدنى، فلم يجدا أحداً حولهما، فظنّا أنهما كانا يحلمان، لكن حين وجد تاج الدين خاتماً في إصبعه منقوشاً عليه اسم ( ستي)، ووجد ممو في إصبعه خاتماً منقوشاً عليه اسم (زين)، فعلم الاثنان أن ما مرّا به لم يكن حلماً بل حقيقة، ولكن كيف السبيل للاتصال بهما؟ وتحول فرح الشابين إلى حزن وهم، لأنه ما من سبيل للاتصال أو الاقتراب من الأميرتين، وخاصة بالنسبة لممو الذي كان يعي تماماً الفارق الاجتماعي الكبير بينه وبين الأميرة، وفي الوقت ذاته لم تكن الأميرتان أفضل حالاً، فقد انعزلتا وحزنتا دون أن تبوحا بالأمر وشعورهما الغريب تجاههما رغم أنهما كانتا جاريتين كما ظنتا. انتبهت عرّافة القصر العجوز (هيلانة) لأمر الأميرتين وتوسلت إليهما بغية الكشف عن سرّ عزلتهما وهدوئهما غير المعتاد، ولم تتركهما حتى باحت الأميرتان بسرّهما علها تجد تفسيراً لذلك، لكن العجوز ضحكت وقالت: (هل رأيتما يوماً زهرة تعجب بزهرة، وبلبلاً يغني فوق عش بلبل آخر؟ وهل هناك أجمل منكما في هذه المعمورة، لا بد أنكما كنتما تحلمان بذلك أو تتوهمان).

لكن زين أقسمت إن ذلك لم يكن حلماً، بل لديهما البرهان وهو الخاتمان، وهنا صدقت العجوز روايتهما عن الجاريتين وقررت مساعدتهما في العثور عليهما. التقت العرافة بحكيم وسردت له الحكاية مدعية أن ولديها التقيا بجاريتين جميلتين وحدث ما حدث لهما، لكن الحكيم كان خبيراً بمثل تلك الأمور فقال لها: فوالله إن ما تقولين ليس إلا علامات العشق والهيام، ولا بد أن أصحاب هذه الخواتم عاشقان يعانيان من الهوى، أنصحك بأن تجوبي الجزيرة على هيئة طبيبة روحانية علك تعثرين عليهما. بدأت العرافة تجول في أنحاء الجزيرة، وذاع صيتها في معالجة المسّ وأمراض النفس، حتى وصل خبرها إلى المقربين من العاشقين تاج الدين وممو، فاستدعوها لإلقاء نظرة على الشابين المهمومين، علها تصلح من حالهما، ويعودان إلى سابق عهدهما، تمعنت العجوز في عينيهما بمحاولة للتأكد من أن هذين الشابين هما الشخصان اللذان تبحث عنهما، فاستدرجتهما في الحديث ثم قالت لهما: (إن أشد أنواع الأمراض هي التي تسري من الألحاظ إلى الألحاظ، ثم تستقر في الفؤاد، تسبب رعدة في المشاعر وتسرعاً في دقات الصدور، وإذا نما وترعرع فهو برق يستعر في الأحشاء، ويشوي الأفئدة من غير جمر، وإذا استقر أكثر، يفتك بسويداء القلب ويجرحه وينزعه من مكانه).

أخبر الشابان هيلانة بما رأت أعينهما يوم نوروز وقصة الخاتمين. تأكدت العجوز أن الجاريتين ليستا سوى هذين الفارسين، وتعهدت أن تكون وسيطاً ومراسلة بين العاشقين، بعد أن تأكدت من صدق مشاعرهما. لقد حمل تاج الدين العرافة خاتم الأميرة (ستي) مع رسالة لها للتعريف عن نفسه وإخبارها بوقوعه في غرامها منذ أن رأى خاتمها في إصبعه، إلا أن ممو لم يرضَ أن يرسل خاتم زين إليها وقال للعجوز: (أقسم لك بإ هذا الخاتم هو بقية روحي، ومن ذا الذي ينتزع روحه؟! لا يا سيدتي، أتشفع إليك بناري التي تذيب أحشائي، وأقسم لك باسم زين أن تتركيه معي ليواسيني وقولي للأميرة زين، إنه مسكين من عامة الناس، لا يبلغ أن يكون كفؤاً لذوي الأميرة والسلطان، غير أن سهام الحب طائشة لم تفرق يوما بين فؤاد مسكين وأمير، وهو اليوم لا يتطاول إلى مركز ليس أهلاً له، ولكنه يتطلع إلى عطف من شأن الأمراء أن يشمل به عامة الناس، فحسبي أن تسألي فقط عن حالي بين الفينة والأخرى). تأثرت العجوز ببلاغة كلامه وصدقه، فتركت الخاتم في يده وحملت رسالة الشابين إلى الأميرتين، وعادت العجوز إلى القصر بالخبر اليقين للأميرتين، ثم عادت منهن برسائل إلى تاج الدين وممو، وكانت تلك اللحظة بمثابة بلسم لقلبيهما الجريحين، فلقد بشرتهما العجوز برسالة ستي وزين وحبهما للفارسين، وبانتظار لقائهما. فخرج تاج الدين ومعه إخوته في موكب يليق بالأمير من أجل طلب يد ستي، وفضل تاج الدين تأجيل مفاتحة الأمير بخطوبة الأميرة زين لصديقه ممو ريثما يصبح صهر الأمير، وليكون له مكانة وحظوة عندما يقوم بذلك. وما إن سمع حاجب ديوان الملك بكر الملقب بيكو فتان (وكان رجلاً خبيثاً ماكراً وفكر بحيلة للتخلص من تاج الدين، لأن الأخير كان قد اكتشفه على حقيقته، وحث الأمير على عزله واستبداله برجل مخلص يؤتمن على أسرار الديوان، فراح بكو يراقب تاج الدين ويرسم خططاً لخلق فتنة للتخلص منه أو طرده من القصر على الأقل، فاكتشف أن صديق تاج الدين يعشق الأميرة زين، وأن تاج الدين يسعى إلى مساعدته للزواج من الأميرة، أخبر بكو الأمير بذلك وقال له إن تاج الدين يكثر من حلفائه ويخطط للاستيلاء على الإمارة ويورثها لأحفاده في المستقبل، حتى أنه يخطط لتزويج الأميرة زين لصديقه ممو، فثارت ثائرة الأمير زين الدين وقال: (كنت أفكر في تزويج زين من ممو، ولكن ها أنا أقسم الآن بأنني لن أدع لهذا الزواج سبيلاً حتى لو توسط لذلك خيرة الأمم، وسالت الدماء أنهاراً من حولي). لم يفهم أحد سبب رفض الأمير القاطع لممو، وهو من خيرة الفرسان، وباتت زين رهينة حجرتها لا تفارق الدموع عينيها، وفقدت رونقها وجمالها، وعزفت عن الكلام وأصابها الوهن وباتت تلقي أشعاراً وتحدث الجدران والطيور والأشجار، تبوح لهم بعشقها لممو وقد كتب عليهما الفراق إلى الأبد، أما ممو فخارت قواه، ولم يعد ذلك الفارس المقدام، بل مهلهلاً واهناً يسير على ضفاف نهر دجلة جيئة وإياباً، أو يسير نحو الجبال شارداً، ولم يعد يرى ما يستحق العيش من أجله في الحياة إن لم يحظ برؤية من سلبته قلبه، وبعد شهور من العزلة والوحدة في حجرتها، خرجت زين إلى حديقة القصر تتمشى وحيدة، بعد أن خلا القصر من الحاشية التي رافقت الأمير إلى رحلة الصيد فخيم السكون عليه، وفي تلك الأثناء كان ممو يمشي قريباً من القصر، وأصبح داخل أسوار حديقة القصر دون أن يعي ذلك، فقد كان شارد الذهن ومتعباً منذ أن رفض الأمير تزويجه أخته، لاح لزين خيال ممو من بعيد.. أهو ممو حقاً؟ أم خيال من خيالاتها المعتادة؟ راقبته زين عن بعد وهو يسير في الحديقة، كان يتحدث مع نفسه وقد أعياه التعب، فتارة يستند إلى جذع شجرة وتارة يقف أمام الأزهار في صمت وهدوء، وعندما اقترب ممو ورأى وجه زين النحيل، سقط أرضاً وسقطت زين بجانبه من هول الحب والمفاجأة، وبعد مدة، استيقظت زين من غيبوبتها ورأت أن ممو لا يزال ممدداً دون حراك، وراحت توقظه برأفة وهدوء، ولأول مرة،بعد لقائهما الأول في نوروز، التقت عينا (ممو) بعيني زين عن قرب، ورأى وجهها الباسم وعينيها السوداويين ورأسه على ركبتيها، أهو حلم أم شاء القدر أن يمنحه فسحة من الأمل؟ عقد لسانهما الحياء، وظلا ينظران أحدهما إلى الآخر دون التفوه بكلمة، ولم يُسمع في ذلك السكون سوى دقات القلب وخفقان الصدر. ثم نطق ممو بأول كلمة وسألها: (أأنت قلبي؟ أأنت حقاً زين أم أحلم كعادتي؟).

أخذت زين يده بيدها، وقالت: (بل أنا هي ونحن في قصرنا، ألا تذكر؟). كان ذلك بلسماً لعذاباته، وتحقيقاً لأمنيته في رؤيتها قبل موته، وتحدث معها لساعات طويلة حتى أدركهما الوقت وخيم عليهما المساء، ووصل الأمير وحاشيته إلى حديقة القصر، بينما زين وممو في تلك الحال، فلم تستطع زين الهرب إلى الداخل، فدخلت تحت عباءة ممو الذي لم ينهض عند وصول الأمير، معتذراً ومتذرعاً بما أصابه من المرض وأنهكه المشي، قبل الأمير عذره، وجلس الجميع ليرتاحوا في الحديقة، لكن تاج الدين أدرك أن هناك أمراً جللاً منع صديقه ممو من النهوض، واستفسره بإشارة من عينه، فأراه ممو طرفاً من ضفيرة زين من تحت عباءته، فأدرك تاج الدين حجم الكارثة التي تنتظر صديقه، فهرع إلى قصره وأشعل النيران فيه، تراكض الجميع لإطفاء النيران، لقد ضحى تاج الدين بقصره كي تتمكن زين من العودة إلى قصرها ويذهب ممو في حال سبيله. لم تنته المكائد التي كان يحيكها حاجب الديوان للإيقاع بممو وتاج الدين، فلقد أوغر صدر الأمير ضد الصديقين عندما قال له: إن هناك حباً بين الأميرة زين وممو، وأن سيرة عشقهما على جميع ألسنة الإمارة، فطلب منه الأمير البرهان على قوله، فخطر بباله فتنة جديدة وراح يقول للأمير: أن يدعو ممو لمبارزته في لعبة الشطرنج في قصره، بشرط أن يلبي الخاسر طلب الرابح، وأنه سيخطط ليجعل ممو يخسر وهو المعروف بمهارته في لعبة الشطرنج، دعا الأمير زين الدين ممو للمبارزة، وقال له بنبرة متحدية أن يبارزه في اللعبة شريطة أن يلبي الخاسر طلب الرابح مهما كان، فرح ممو بهذه المبارزة وهو يعلم أنه من أمهر لاعبي الشطرنج، لكن بكو وبعد أن بدأت جميع الفتيات يتفرجن عليهم من النافذة المطلة على القاعة، طلب من ممو أن يجلس في مقعد مقابل النافذة دون أن يدرك أحدهم السبب، وعندما بدأ اللعبة وسط حضور كبير.

وقعت عينا ممو على زين فلم يعد قادراً على التركيز في اللعبة، فخسر الرهان خمس مرات متتالية، فطلب منه الأمير باعتباره الرابح، أن يحدثه عن فتاة أحلامه التي تشغل باله، فوجئ ممو بالطلب وصمت دون أن يتفوه بكلمة، ثم أنطقه بكو مستفزاً إياه بقوله: (لا شك أنها جارية قبيحة لمحها ذات مرة وربما يخجل من الحديث عنها ووصفها). استفز ممو وأجابه سريعاً، ناسياً وجود الأمير قائلاً: (حبيبتي رفيعة المجد لا يضاهيها البدر، رائعة الجمال لا تبلغ الشمس أن تكون أختا لها، أصيلة النسب لا ينازعها أحد فهي أميرة الجزيرة). جنى ممو بذلك على نفسه واقتيد إلى السجن، بسبب جرأته وتطاوله في وصف الأميرة أمام الجميع، مكث ممو عاماً في السجن، يقول الشعر في حبيبته للجدران القاتمة، ومرض حتى أكل المرض جسده، وظل الأمير رافضاً العفو عنه رغم الوساطات التي تدخلت بالأمر.

لقد قرّر تاج الدين أن يثور على الأمير وألا يخرج من القصر إلا ومعه صديقه ممو السجين، حتى لو أدى ذلك إلى نشوب حرب وسفك دماء، علم الأمير بالأمر وقرر زيارة أخته زين في حجرتها، والسؤال عن أحوالها ومن ثم التخطيط لحيلة توقع بصهره تاج الدين، بعد أن وسوس له مرة أخرى الحاجب بكو بقوله إن صهره تاج الدين سيتمرد عليه ويجلس مكانه، لكنه صدم بما رأت عيناه عندما التقى بزين، كانت مريضة هزيلة وتحتضر وتقذف دماً عند السعال، ولا تقوى على الكلام إلا بصعوبة، ندم الأمير على فعلته بعد أن رأى حال أخته، وقرر أن يعفو عن ممو الذي كان هو الآخر على وشك الموت في سجنه، فندم على ما فعله بممو وزين، في الوقت الذي كان ممو يعيش ساعاته الأخيرة. فتذكّر أخته زين فأسرع إليها ليشاهدها تحتضر وهي تدعو له بالخير رغم ما فعل بها، فحملها الأمير إلى ممو سريعاً، عسى أن تعود إليها عافيتها برؤية الحبيب، وأقسم أن يزوجهما حالما تقوى على المشي وتتعافى. نظر ممو إلى باب السجن، وإذا بزين على الباب فظن أنها شبح أو خيال، وبدأ يبتسم ويلقي شعراً أبكى كل من يسمعه، لكنها اقتربت منه، وتحدّثا بصعوبة بالغة لبضع ساعات حتى فارق ممو الحياة بين يديها وهو يبتسم، واصفاً نفسه بأسعد إنسان لأن أمنيته برؤية وجه حبيبته قد تحققت قبل أن يفارق الحياة. خرج تاج الدين ينوح على صديقه ويجوب القصر كالمجنون على فراق توءم روحه، فصادف بكو في طريقه وقد علم بما كان يفتن فأرداه قتيلاً، ولم يتحمل قلب زين المتعب أصلاً موت حبيبها وفارقت الحياة في الليلة نفسها، ودفنا معاً في قبرين مجاورين ودُفن بكو الخوان تحت قدميها، ليلعنه كل من يزور قبر الحبيبين في جزيرة بوطان، اللذين باتا مزاراً للعشاق في عيد نوروز بـ21 آذار من كل عام حتى يومنا هذا. فكل عام وشعوب المعمورة وبضمنهم الشعب الكردي بألف خير بمناسبة عيد نوروز.

 

العدد 1105 - 01/5/2024