الشعر وأسئلة الفقد والوطن

عباس حيروقة:

الشاعر هو ابن بيئته، فمن البداهة أن يكون الأكثر قدرة على قراءة مفردات الحياة وتهجّي أبجدياتها بكثير من الصفاء والصدق والواقعية والعمل من جديد على كتابتها بشكل يليق بما وهبه الله من طاقة وقدرة وموهبة، فتؤول تلك المفردات إلى أقمار تُشدُّ إليها أنظار الناس الحزانى حيناً، وأحياناً إلى ينابيع وسواقي وحقول وبساتين يؤمّها الفراش بأسرابه والعصافير وأطفال البلاد.

الشاعر أو الأديب هو الأكثر قدرة على التقاط مواضع وبواطن الدّهشة في أدقِّ تفاصيل الحياة ويعمل على إظهارها للعامة لتنعم وتلتذ بألقها بعد أن يكون قد وضعها كأيقونة في جدران يومياته وكم تكون سعادته عارمة حين تسكن الدهشة في عيون زواره.. أبناء الحياة.

وأيضاً هو الأكثر قدرة على معايشة هموم الناس البسطاء وآلامهم وعذاباتهم، لأنه من طينها ومن مائها، فيجيد الإصغاء حتى لحجار الدور وأعشاب البابونج.. لفراخ العصافير في أعشاش منتشرة في (رعوش) (الحواكير) فتطفح روحه غمامات تحرّكها ريح المحبة والانتماء فتهطل قصائد وآمال أمّ مازلت تنتظر ابنها في مساءات الحروب..

الشاعر ابن بيئته وكغيره يفرح ويبكي ويرقص ويغنّي ويصرخ ويشتم.. ولكن على شاكلة طفل يتيم حيناً ومدلل ومشاكس ومتمرد حيناً آخر.

ومن أكثر المشاهد التي يعيشها الشاعر ويعايشها وبشكل شبه يومي في السنوات الأخيرة الماضية سنوات الحرب والفقد والغربة والاغتراب هي مشاهد التشييع.. بل المشاركة في تشييع الأبناء والإخوة والأصدقاء.. تشييع أبناء بلد ووطن مازال يمعن في النحولة والوجع والبكاء لأنه الضالع في العزة والشموخ والأصالة والكبرياء.

ثمة مشاعر لا يمكن ترجمتها بشكل يليق باللحظة.. بالحالة ولو بأقل أقلها.

ما يمكن للقصيدة أن تقوله وهي أمام أمّ شهيد هدّها الفقد وأضناها الشوق لبعض بعض ولدها الذي بدّد عتمة العالم بقطرة من دمه المقدّس ونشر ضياء روحه في سماء سوريتنا.

ماذا يمكن للقصيدة أن تقول وهي تنظر من علٍ إلى مواكب الشهداء.. زغردات الأمهات.. أعلام البلاد.. دموع الآباء.. والأسئلة التي زرعها الشهيد في عيون أبنائه حين وداع وقبلة.. أسئلة بحجم البلاد.

ماذا يمكن أن يقوله الشعر أمام نبض أمّ حين وصول رسالة من ابنها الرابض على جبهات القتال أن ادعِ لي يا أماه وسامحيني؟!

الشعر.. الإبداع يعجز في إيصال حرارة دمعة واحدة انهالت فوق جثمان شهيد، فكيف يمكنه أن ينجح في إيصال مشاعر أم وهي تتصدر الموكب المهيب.. موكب ولدها الشهيد حاملة جثمانه على كتفها وهي ترتّل معنا نشيدنا الوطني؟!

هل نجح الفكر والعقل والقلب في الوصول إلى تعريف للشهادة.. للانتماء.. أي تعريف يقارب ولو مقاربة بسيطة إلى ما سطره السوري الحقيقي المنتمي للضوء وللنور.

نعم، هي الحرب بكل مفرداتها.. أظهرت وبشكل واضح وجليّ أن أبناء سورية هم سلالة قمح وشمس ونور وماء، ولأنهم كل هذا وأكثر انتصروا بثقافتهم الطافحة بالياسمين وبالجمال والخير وبكل مفردات حضارتهم على قبح العالم ومشاريع الكفر والتكفير.. انتصروا بثقافة الحياة والحرية على ثقافة الموت والعبودية.. نعم، هم السوريون لا يمكن إلا أن يكونوا أبناء النصر والحب والحياة.

العدد 1105 - 01/5/2024