حين تدلهمّ فضاءات الحياة يبدو الموت ملاذاً أخيراً

إيمان أحمد ونوس:

حين تدلهمُ سماء الروح وتصفرُ في فضاءاتها رياح الخيبة..

حين يضيقُ العقل عن استيعاب الواقع وتنعقُ في رحابه غربان الهزيمة..

حين لا يلوح في أفق التفكير بصيص أمل يُضيء دياجي الحياة المُستشرية، فتُطبقُ عليه أنياب التيه وتوحّش النهب والسطو..

وحين تفقد الحياة معنى وجودها، تنشبُ مخالب اليأس في تفاصيلها ويصفرُ فيها كعواء الذئاب فتُطيح بكل ما يدفع باتجاه التمسّك بطوق النجاة والحياة.

حينذاك وبكل انفلاتٍ للقيم، وفقدان لقيمة الذات، يضعُ اليائس حدّاً لحياته وخيباته وهزائمه وخواء الروح معها.

وفي خضمّ صخب الحياة المعاصرة ومغرياتها التي لا تنتهي، ومتطلباتها المُتشعّبة وسط واقع تشرئب فيه هامات البطالة المُستشرية في البلدان النامية، وتلك التي شهدت حروباً أطاحت بأدنى إمكانية للعيش، فيُنشِب الفقر مخالبه في حياة أعداد كبيرة من بيئات وشرائح مختلفة، تظلُّ تلك المغريات جاثمة في النفوس المُقيّدة عن إمكانية التحقيق بانتظار غدٍ ربما يحمل معه عصاً سحرية تُلبي ما تشتهي تلك النفوس وترغب، مثلما يظلُّ الفقر مُقيماً لا تداويه أيّة علاجات حكومية خلّبية بعيدة عن تحقيق العدالة الاجتماعية، علاجات تلامس الواقع علّها تُنهي معها معاناة ملايين أولئك الفقراء الذين لا يجدون في الحياة ما يقيهم العوز والجوع والهزائم المُتكررة كل يوم.

هنا لا شكّ سينقسم الناس إلى شرائح مختلفة في تقبّلها وصبرها على هذا الواقع، فمنهم من يُكمل مسيرة حياته كما بدأها دون تحريك ساكنٍ يُذكر لتغييرها، ومنهم من يسعى باستمرار وبكل الوسائل للنهوض من قاع هذا الواقع نحو نور الحياة، وفئة أخرى قليلة ولأسباب مادية ونفسية تعجز عن إيجاد حلول لمشكلاتها المتراكمة والمُستعصية بنظرها، نتيجة لما واجهها من خيبات وهزائم على مختلف المستويات، لاسيما المتعلقة منها بإثبات الذات عبر معالم حياة قائمة على عمل لائق أو تعليم جيد يفتح أمامها الآفاق رحبة فسيحة، أو حتى إمكانية تأسيس أسرة ولو بأدنى المتطلّبات.. حينئذٍ تكون الخيبة والخذلان مصيراً شبه محتوم، فيلوذ البعض بالموت انتحاراً يراه خلاصاً ومُنقِذاً من معاناة لن تنتهي، وإن وُجِدت بعض الحلول التي تُخفّف من قسوتها. ولعلّ الشباب هو الضحية الأولى لحالات الانتحار المُتزايدة في المجتمعات التي عاشت الحروب، ومثلها الفقيرة والمُتخلّفة.

وهناك سبب آخر يكمن خلف حالات الانتحار لدى الأطفال واليافعين يُضاف إلى ما ذكرناه من مشاكل ومصاعب، ألا وهو تقليد بعض مشاهد الانتحار في الأعمال الدرامية والتي لا يعي فيها أولئك الأطفال أن تلك المشاهد ما هي سوى مشاهد تمثيلية لا أكثر، وهنا يقع على الأهل أولاً، وعلى القيّمين على هذه الأعمال التنبيه لهذا وضرورة عدم مشاهدة الأطفال لها.

لكن، في المجتمعات التي تنعم بعدالة اجتماعية، ووفرة اقتصادية تُمكّن الفرد من تحقيق كل طموحاته وما تُمليه عليه متطلبات الحياة المُعاصرة، نجد أن نسب الانتحار تتزايد أكثر منها في المجتمعات الفقيرة، وهنا المُفارقة التي تُحيّر البعض، ذلك أن هناك أشخاصاً في تلك المجتمعات المُترفة لا يجدون ما يفعلونه أو يُلبي حالات الفراغ التي يعيشونها، بعدما نالوا كل ما يرغبون، سوى الموت الذي يضع حدّاً لخواء الروح وفراغ الحياة من معناها الحقيقي.

وإذا ما أردنا النظر إلى مسألة الانتحار بحدّ ذاتها.. وإذا ما أردنا وصفها، نجد أن هناك من يرى في تنفيذها قوّة وشجاعة في طلب الموت لا يمتلكها الكثيرون، بينما يراها آخرون ضعفاً وهزيمة أمام مصاعب الحياة أو متطلبات الوجود. هنا، وأيّاً كان التوصيف لتلك الحالات، فإن على الجميع أفراداً وهيئات ومؤسسات احترام رغبة الفاعل (المُنتحر) والابتعاد عن تكفيره وعن رفضه، والابتعاد عن قيم ومفاهيم سائدة تمنع حتى إقامة شعائر الصلاة على روحه، أو تمنع التعزية بوفاته، وبدل هذه الممارسات التي تزيد من قهر العائلة والمقربين، فإن على المعنيين من رجال الدين والساسة والجهات الحكومية المسؤولة عن رصد ودراسة أسباب هذه الحالات التي شارفت أن تغدو ظاهرة ، بينما الإعلام الرسمي يرفض الاعتراف بها وبأسبابها التي يردّها لأسباب شخصية بحتة مُتجاهلاً الواقع المرير لعموم الناس، على الجميع احترام ما حدث ومحاولة العمل على التخفيف من آثارها، ليبقى للحياة ألقها الذي يجعلنا نتشبّث بها رغم كل دياجيها ومصاعبها وآلامها وحروبها المتعدّدة التي نواجهها يوماً بعد آخر، ولا أمل يلوح في الأفق المنظور لِحلحلة الكثير من تلك المشاكل والمصاعب.

فهل من مُصغٍ ومُجيب!؟

العدد 1107 - 22/5/2024