الحاجة إلى سياسة ثقافية جديدة للتنمية

يونس صالح:

لا شك أن العنصر الثقافي أساسي في مفهوم التنمية، كما أن الحرية الثقافية حيوية لتحقيق الكرامة الإنسانية.. والحرية الثقافية هي حرية جماعية تشير إلى حق جماعة من الناس في أن تتخذ ما تشاء من أساليب الحياة.

إن الحرية الثقافية هي ضمان للحرية بما هي كل متكامل، فهي تتجاوز حماية الجماعة إلى حماية حق كل فرد من أفرادها. والحرية الثقافية بحمايتها مناهج الآخرين في الحياة تشجع على التجريب والتنوع والخيال والإبداع. إن التنمية الحقيقية ليست تلك التي تسعى إلى ردم الهوّة وتجاوزها بيننا وبين الدول المتطورة فحسب، بل تلك التي تظهر أن تقاليدها الثقافية يمكن أن تدمج بالموارد الاقتصادية والعلمية والتكنولوجية الحديثة.

هذا المفهوم المحدد للتنمية البشرية يطرح السؤال المتعلق بكيفية بلوغ الأهداف المنشودة لتحقيق إنسانية الإنسان عندنا، وبالتالي خير المجتمع. إن التنمية المستدامة والازدهار الثقافي مترابطان يعتمد كل منهما على الآخر، فالثقافة بمعناها الواسع قد تكون اليوم عبارة عن جماع السمات الروحية والمادية والفكرية والعاطفية التي تميز مجتمعاً بعينه أو فئة اجتماعية بعينها. وهي تشمل الفنون والآداب وطرائق الحياة، كما تشمل الحقوق الأساسية للإنسان ونظم القيم والتقاليد والمعتقدات.. إلخ.

وبالتالي ربما كانت السياسة الثقافية تمثل أحد المكونات الرئيسية لسياسة إنمائية مستديمة تعتمد النماء الذاتي الداخلي، فلابد من تنفيذها بالتنسيق مع السياسة في مجالات أخرى على أساس التوجه المتكامل، كما أن على كل سياسة تنموية أن تأخذ بالحسبان بشكل جدي الثقافة في ذاتها، فما هي إذاً الملامح الأساسية للسياسات الثقافية الواجب اتباعها في هذا السياق؟

إنها تتمثل كما أرى في حرية التعبير تحقيقاً للتفاعل والمشاركة الفعالة في الحياة الثقافية، وتشجيع الإبداع في مختلف أشكاله، وإعطاء الفرص للمواطنين جميعاً بكل فئاتهم لممارسة النشاطات الثقافية، والتمتع بالخبرات الثقافية، وإثراء الشعور بالانتماء لدى كل فرد ومجموعة ودعمهم في بحثهم عن مستقبل كريم وآمن، وتحقيق الاندماج الاجتماعي وتحسين نوعية الحياة لكل أفراد المجتمع دون تمييز، واحترام المساواة بين المرأة والرجل، مع الاعتراف الكامل بحقوق للمرأة مماثلة لحقوق الرجل، وبحريتها في التعبير، والمشاركة الفعالة في مجتمع المعلومات، وتمكن كل فرد من تقنيات الإعلام والاتصال.

إن بلادنا تعصف بها تحديات خطيرة تزداد حدة وقسوة مع مرور الزمن، وكأن لا ذروة ثابتة لها، وهي تحديات سياسية واقتصادية واجتماعية وأخلاقية وثقافية تهدد ذاتيتها وكيانها وتطرح أسئلة عميقة الدلالة وصعبة الإجابة في شأن مستقبل أجيالها الصاعدة. ولا شك في أن إدراك كون المعضلة التي نواجهها معضلة حضارية في الدرجة الأولى، يبرز العنصر الثقافي بما هو العنصر الحيوي في الاستجابة للتحديات الأليمة التي ينبغي في البلاد أن تنهض لها. إن أمام بلادنا أشواطاً طويلة لابد من قطعها في سباق مع الزمن، حتى يظل لها، وهي العريقة، وجود على صفحات تاريخ حديث لا يرحم المتواني ولا يغفر لمن يخطئ. ففي عصر أصبحت الأمية فيه هي الجهل باستخدام تقنيات الاتصال، مازالت الأمية الأبجدية لدينا مرتفعة المعدلات، لم يتم القضاء عليها رغم الخطط والمحاولات، ومازالت معدلات التسرب من التعليم مثيرة للقلق، ومازالت المناهج الدراسية بعامة تعاني الغربة عن العصر، وتجتر أساليب تربوية تجاوزها الزمن، وتظل الملكية الفكرية حقلاً سائباً للتجار والسماسرة، ويبقى ضئيلاً قياساً بما ينبغي أن يكون عليه عدد قاعات المسارح ودور السينما وغيرها.

وفي مجال الاتصال تفتقر البلاد إلى البنية التحتية للاتصالات، ولا توجد لدينا صناعة ثقافية حقيقية، فأين نحن من اللحاق بالعصر؟ وكيف سنواجه تحدياته القاهرة؟ ومن أين يجب البدء؟

ليس المقصود من رسم هذه الصورة القائمة للوضع شلّ العزائم، والركون إلى اليأس، والتباكي على الواقع المؤلم، لكنها صيحة الدعوة إلى الصحوة من رقاد طويل، والانطلاق في فضاء العصر الجديد، انطلاقة تنتقي، بروح نقدية مثقفة ومسؤولة، من ماضي هذا البلد العريق تجلياته المشرقة، لتزاوجها مع أفضل ما أفرزته الحداثة في هذا العصر من قيم الحرية والعدالة واحترام الإنسان والمساواة بين المواطنين وتشجيع الإبداع وتبجيل العلم وتأكيد قيمة العمل، وهي قيم أخلاقية محورية يجب النهوض بها وترسيخها، فهي أساس كل نهضة حضارية.

 

العدد 1105 - 01/5/2024