شجرة عمّي أحمد الاشتراكيَّة

عبد الرزاق دحنون:

وكأن الشاعر الإسبانيّ العظيم أنطونيو ماتشادو قد شاهد عمّي أحمد دحنون، في صباح يوم شتويّ ماطر، يسير في الطريق المتجه إلى خارج المدينة، يحثُ الخُطا إلى البريَّة، يحمل على كتفه شجرة ضخمة مقتلعة حديثاً من حديقة منزله. ودليل حداثتها هو ذلك التراب الذي (يُشرشر) من شروشها على الطريق، يسير بها وهناً على وهن إلى مستقرّ لها في حفرة عميّقة جَهَّزَها قبل أيام في كرم الزيتون البعيد عن المدينة، فكتب أنطونيو ماتشادو عن عمي أحمد قصائد مذهلة في عمقها وبساطتها. يقول له:

(خطواتك هي الطريق ولا شيء آخر

أيها السائر لا وجود للطريق

فالطريق تصنعه بمسيرك

وعندما تنظر إلى الوراء

ترى الطريق الذي لن تعود لوطئه أبداً

أيها السائر في الطريق

كلّ شيء يمضي

وما يعنينا هو المضيّ في الطريق).

وقع حادث شجرة عمي أحمد، على ما أذكر، في منتصف العقد الثامن من القرن العشرين، وكان ميخائيل غورباتشوف قد صار أميناً عاماً للحزب الشيوعيّ السوفييتيّ. وكنا قد تجادلنا مع عمي أحمد حول السياسة الجديدة التي يقود ميخائيل غورباتشوف الاتحاد السوفييتيّ من خلالها، في سعي منه، لإصلاح ما أفسده الدهر من التجربة الاشتراكيّة، وذلك من خلال مشروعه الذي سماه (البيريسترويكا) حيث سيقتلع تلك الاشتراكيّة من شروشها ويُعيد زرعها في تربة جديدة. وقبل الجدل ذاك بدقائق معدودات كنتُ وأولاد عمي في جدل آخر، مع عمي أحمد، بشأن شجرته التي في حديقة منزله الصغيرة على الأشجار الكبيرة، لذلك يريد قلع الشجرة من شروشها، ومن ثمَّ زرعها في مكان جديد من كرْمه الذي اشتراه حديثاً. قلنا له: يا عمّي أحمد، أنت تعرف أكثر منا بكل تأكيد، فأنت عامل ميكانيك في معمل حلج الأقطان في مدينة إدلب منذ أكثر من عشرين عاماً، وأنت أحد أعضاء المكتب التنفيذيّ للاتحاد العام لنقابات العمال في سوريّة، وأيضاً أنت من رفاق خالد بكداش، كل ذلك على رأسنا ومن ثمَّ عيننا، ولكن في النهاية ألا تعتقد معنا بأن قلع الأشجار من مكانها وغرسها في مكان آخر هو من عمل الفلّاح أو المُزارع الخبير، فالفلّاح حين يريد قلع شجرة زيتون من مكانها، ليزرعها في مكان آخر، ماذا يعمل؟ أو (ما العمل؟) على حدِّ تعبير لينين، لأن الشيء بالشيء يُذكر؟ قال عمّي أحمد: الأمر في غاية البساطة، يُنشر أولاً بمنشار قاطع الأغصان العلويّة منها، ثمِّ يحفر حول جذع الشجرة ويقتلعها من قرمتها، ثمَّ يحملها ليزرعها حيث يشاء، وهكذا يفعل الفلّاح مع أشجار الزيتون المُقتلعة، وفي بضع سنين تصبح شجرة زيتون مثمرة من جديد. قلنا: هذا صحيح يا عمي، ولا خلاف عليه، لأن الفلّاح يعرف ما يفعل ويختار الوقت المناسب لذلك، وشجر الزيتون بكلّ تأكيد يقبل النقل من مكان إلى آخر، ولكن أنت تُعامل جميع الأشجار كما يُعامل شجر الزيتون، وهذا من الأخطاء الفادحة، ولا يمكن إصلاح هذا الخطأ بعد ذلك إن وقعت فيه، فأنت تريد في واقع الأمر قلع شجرة (مُشْمُش) وزرعها في مكان آخر وهذه ليست من تلك. ضربنا له الأمثلة عن أشجار لا يمكن قلعها من مكانها وزرعها من جديد في مكان آخر مهما احتطنا للأمر، فهل قلع أحدهم شجرة مُشْمُش كبيرة مُثمرة، ثمَّ زرعها في مكان آخر، وبقيت حيّة؟! نحن نشكّ في ذلك!

أغلب الظَّن أنَّ الأشجار مثل المجتمعات البشريَّة، لكلٍّ منها شروشه الضاربة في التربة حيث تكيّفت في البيّئة المناسبة لها على حدّ تعبير تشارلز داروين في كاتبه المشهور (أصل الأنواع). على كل حال، جاء ربيع تلك السنة أسرع مما توقعنا بعد أن غرس عمّي أحمد شجرته في كرم الزيتون، ومع قدوم ربيع ذلك العام أورقت الأشجار وأزهر بعضها، ولم تظهر على شجرة عمّي أحمد علامات الحياة، فقد يبست أغصانها، ثمَّ ذهب جذعها وشروشها إلى يباس لا مفرّ منه، وقفت وحيدة عارية في الكرم دون عصافير تُغرّد على أغصانها المورقة، وصارت حطباً يصلح وقيداً للنار.

وبالعود على بدء، فقد كتب الشاعر أنطونيو ماتشادو قصيدة أخرى في وداع عمي أحمد وشجرته -رحم الله كليهما- يقول:

(لقد مشيت طرقات عديدة

وفتحت مسارب أخرى؛

أبحرت في مئة بحر

ورسوت في مئة سهل.

لقد رأيت في كل النواحي قوافل حزن:

متكبّرين وسكارى

حزانى تحت ظل أسود

مزهوّين يرقبون،

يصمتون

ويفكرون أنهم يعرفون

لأنهم لا يشربون خمر الحانات.

ناس سوء يتجولون ويعبثون على الأرض.

ورأيت في الأنحاء كلّها

ناساً يرقصون أو يلعبون عندما يستطيعون،

ويحرثون أربعة أشبار مما يملكون من الأرض.

أبداً عندما يصلون مكاناً، لا يسألون أين وصلوا.

عندما يسيرون،

يركبون ظهور بغالهم المعمّرة.

ولا يعرفون معنى للتعجّل

ولا حتى في الأعياد.

أينما يوجد نبيذ، يشربونه؛

وعندما لا يعثرون على نبيذ

يشربون مياهاً منعشة.

بشراً طيبين يحيون، يحرثون، يتمشّون ويحلمون

وفي يوم مثل غيره سيرقدون تحت التراب).

 

العدد 1104 - 24/4/2024