المسألة القومية في سياسة الحزب الشيوعي الصيني

سامي أبو عاصي:

الأمة الصينية تفتخر بحضارتها العريقة، التي تكونت على مدى العصور السابقة، وساهمت في بلورتها قوميات مختلفة. بلد متعدد القوميات، قومية الهان هي المكوّن الأكبر، وإلى جانبها تحضر 56 قومية أخرى ذات ألوان متباينة في الشكل والتطور التاريخي. وعلى رأس ذلك حزب شيوعي يقود البلاد، ويتبع الماركسية منهجاً لعمله على مدار العقود العشرة الماضية (احتفل العام الماضي بالذكرى المئوية لتأسيسه).

حزب شيوعي نبتت جذوره في هذه البلاد، فعمد إلى فهم مكوناتها الاجتماعية وتناقضاتها التاريخية وخاصة تلك المتعلقة بالأقليات القومية، ومحاولة إيجاد الحلول لها لكي تساهم في بناء المجتمع الاشتراكي الذي طمح إلى قيامه الرعيلُ الأول من الشيوعيين الصينين.

الكتاب الصادر حديثاً بعنوان (دراسات حول مناهج الحزب الشيوعي الصيني في البناء الثقافي للأقليات) يقدّم عرضاً شيقاً متسلسلاً لرحلة الحزب الشيوعي الصيني في تعامله مع المسألة القومية انطلاقاً من مرجعيته الماركسية. يستعرض الكاتب (لي تسي يوان) المحطات البارزة في تشكّل رؤية الحزب الشيوعي الصيني حول الأقليات القومية. فينطلق من مرحلة التأسيس، مروراً بمواجهة العدوان الياباني، ويستعرض التوجيهات التي كانت تصدرها قيادة الحزب، وعلى رأسها ماو تسي تونغ، في كيفية التعامل مع الأقليات القومية، ومحاولة فهم خصوصيتها، في سبيل دفعها للمشاركة في مواجهة العدوان، فعلى سبيل المثال وجهت اللجنة المركزية، الجيش الأحمرفي تلك الفترة، بمراعاة خصوصية قومية هوي (المسلمة) أثناء المرور بالمناطق التي تقطنها، وعدم دخول مراكز عبادتهم أو لمس كتبهم المقدسة، أو التحدث معهم عن الأمور التي تخالف معتقداتهم الدينية. وفي عام 1940 اقترح أبناء قومية هوي في يانآن إنشاء مسجد، فوافقت حكومة المنطقة على ذلك. إضافة إلى ذلك فقد كتب ماو تسي تونع شخصياً كلمة المسجد.

ومع بداية تأسيس الدولة الوطنية، عزّز الحزب الشيوعي الصيني موقفه الواضح من الأقليات، ودعا إلى صيانة تراثها وتوثيق لغاتها، في حال كانت مكتوبة، أو مساعدتها على إيجاد أبجديتها في حال كانت منطوقة فقط. وطرح ماو تسي تونغ نظرية المساواة المطلقة بين جميع القوميات، انطلاقاً من أن الماركسية تدعو إلى أن تكون جميع القوميات على قدم المساواة في مجالات الحياة الاجتماعية كافة، وتعتبر أن المساواة القومية أحد المبادئ الجوهرية لمعالجة العلاقات القومية، وعليه فإن جميع القوميات تتمتع بالقدر نفسه من المساواة مع القومية الأكبر (الهان)، ويحقّ لجميع الأقليات القومية التمتّع بحقوق الحكم الذاتي المتساوي، ولها الحقوق المتساوية في مجال اللغات المنطوقة والمكتوبة والعادات والأساليب والمعتقدات الدينية.

وكان تشو إن لاي (بصفته رئيس أول مجلس لدولة الصين)، مساهمته الخاصة في هذا المجال، فقد فسّر بدايةً سبب حالة التخلف السياسي والاقتصادي والثقافي للأقليات القومية بأنها تعود إلى نظام الاضطهاد القومي. أما الوسيلة لإصلاح ذلك فلا يتحقق بالإجبار أو إصدار الأوامر، بل عن طريق تنمية الاقتصاد القومي وتطوير القدرة الأنتاجية. وحاول تشو إن لاي أن يكون سبّاقاً في إظهار احترام خصوصيات كل قومية، وظهر ذلك بارتدائه الملابس التقليدية لقومية داي، أو بقيامه ببعض الطقوس التي تتبعها قومية كوريا عند زيارته لها. وشدّد على أن الإصلاح الاجتماعي هو الموضوع المشترك لجميع القوميات الصينية، وإن جوهر الإصلاح الاجتماعي هو الإصلاح الاقتصادي، ويتكون الإصلاح الاقتصادي من خطوتين، تتجسد الأولى بالإصلاح الديمقراطي، والثانية إجراء الإصلاح الاشتراكي.

أما المرحلة التالية التي سمّيت بالثورة الثقافية، فلقد حادت عن الأسس التي قامت عليها سياسة الحزب الشيوعي الصيني في معالجة ملف القوميات المعقّد، وتركت أثراً سلبياً. ولكن مع الانتقال إلى مرحلة الانفتاح، التي قادها رجل الدولة العظيم دنغ شياو بينغ، عاد التوجه نحو استكمال مسيرة تعزيز التتاغم والانسجام بين المكونات القومية، فقد دعا إلى رفع المستوى العلمي والثقافي لجميع القوميات، وتطوير الحياة الثقافية السامية والمتنوعة لبناء الحضارة الروحية الاشتراكية، مترافقاً ذلك بالعمل على بناء الحضارة المادية رفيعة المستوى.  لقد تضمن البند الرابع من دستور جمهوية الصين الشعبية الذي تمت الموافقة عليه في 4 كانون الأول (ديسمبر) 1982 على (مساعدة الدولة كل المناطق التي تقطنها الأقليات القومية على الإسراع في التنمية الاقتصادية والثقافية وفقاً لخصائص الأقليات القومية المختلفة وحاجاتها)، أما البند 119 من الدستور فينص على أن (تدير هيئات الحكم الذاتي في المناطق ذاتية الحكم للأقليات القومية القضايا التعليمية والعلمية والثقافية والصحية والرياضية المحلية، وتحمي التراث الثقافي القومي وترتبه، وتحقق التطوير والازدهار للثقافات القومية بشكل ذاتي).

يتضمن الكتاب الكثير من المعلومات حول التوجّهات التي اعتمدها الحزب الشيوعي الصيني منذ مرحلة الانفتاح في عام 1987 حتى يومنا هذا، مُسندةً بالإحصائيات الدقيقة، ومدعمة بشرح واضح ومطول لكل مشروع من المشاريع الثقافية والاقتصادية، التي جرى اعتمادها في مناطق الأقليات القومية.

وقد بذلت مترجمة الكتاب (وي تشي رونغ) جهداً عظيماً في ترجمة هذا الكتاب إلى اللغة العربية، وقدّمت لنا مادة يمكن الاستناد عليها في توسيع بحثنا عن موضوع الأقليات في ظل النظم الاشتراكية، وفي ظل الاشتراكية ذات الخصائص الصينية تحديداً.

الكتاب: دراسات حول مناهج الحزب الشيوعي الصيني.

المؤلف: لي تسي يوان

المترجمة: وي تشي رونغ

الناشر: الدار العربية للعلوم_ ناشرون 2021.

العدد 1105 - 01/5/2024