لماذا هذه الضجة في السويد!؟

طلال الإمام_ ستوكهولم:

تُثار الآن في السويد وخارجها، عبر مختلف وسائل التواصل، حملة تحت شعار (أعيدوا لنا أطفالنا) تدّعي أن العاملين في الشؤون الاجتماعية في مختلف مناطق البلاد يقومون بسحب الأطفال من أسرهم وإعطائهم لعائلات سويدية لتربيتهم حتى يبلغوا سن الـ 18 عام. تنسج إشاعات وروايات عدة وحملات تهويل تدعي أن هذه العملية تجري دون مبرر أو عند أول رنة هاتف أو إخبارية /إبلاغ عن تعرّض الطفل لأي شكل من أشكال العنف المعنوي (بالكلام) أو المادي (الضرب) من قبل والديه أو أحدهما أو أحد أفراد الأسرة. بل وصل الأمر إلى حد ترويج إشاعات تقول إن الهدف الاساسي هو تغيير دين الأطفال ليصبحوا مسيحيين! (علماً أن القوانين السويدية تضمن حق الأهالي الطلب أن يوضع أطفالهم لدى عائلات من ديانة الأهل نفسها).

تخلق مثل هذه الحكايات المتداولة إرباكاً وهلعاً بين بعض الأهالي الأجانب بحيث لا يعرفون كيف يتصرفون في تربية أولادهم، يرافقه خوف غير مبرر من فقدان الولد وفصله عن أسرته.

الملاحظ الآن دخول قنوات مثل (الجزيرة) وما شابهها على خط حملات التهويل هذه، الأمر الذي يثير أكثر من سؤال حول الهدف أو الأهداف لهذه الحملة؟ من يقف وراءها؟ من يموّلها؟ ومن هم المشرفون بشكل مباشر أو غير مباشر عليها؟ والأهم مدى تطابقها مع الواقع؟

الآن، ما مدى صحة هذه الادعاءات، الإشاعات والحكايات؟

هل فعلاً تقوم (الشؤون الاجتماعية) أو الشرطة بسحب الطفل من أسرته بهذه السهولة التي تتبادر للذهن لدى سماع تلك الأقاويل، بمعنى فور أي إبلاغ يشير لتعرض الطفل للعنف، ودون إجراء أية تحقيقات أو خطوات للتأكد أو حتى دون دليل ومكتفية بأقوال من يبلّغ؟

الأمر ليس بهذا الشكل ولا بهذه السهولة. لكن قبل أن أتطرق إلى الإجراءات المتبعة في مثل هذه الحالات، بودّي القول إن من ينقل ويشيع تلك الروايات لا تستند مصادره إلى الهيئات والدوائر الرسمية، وإنما إلى القيل والقال أو لغايات سياسية. ثانياً مردّ ذلك أيضاً هو الجهل بالقوانين السويدية السارية، ما يخلق خوفاً غير مبرر أو مبالغ فيه، الإنسان بطبعه عدوّ ما يجهل.

من نتائج فشل سياسة الاندماج.

إن ما وصل إليه الأمر حول هذه المسألة وسواها يشير مرة أخرى إلى فشل برامج دمج الأجانب بالمجتمع السويدي، وهذا برأيي من اسباب اتساع الهوة والشك والتصورات المسبقة وعدم الثقة بين بعض الأجانب وقوانين السويد ومؤسساتها. فمن جهة تتناقض ثقافة بعض الأجانب التي حملوها من مجتمعهم الأول مع ثقافة وقوانين السويد، ولا يجري تعريفهم بتلك القوانين بالشكل والوقت المناسبين. من جهة أخرى فإن الكثير من العاملين في دوائر الشؤون الاجتماعية بشكل خاص، ليس لديهم معلومات كافية عن ثقافة أهالي الأولاد الذين يتعاملون معهم، وبعضهم لديه تصورات مسبقة سلبية عن تلك الثقافات، الأمر الذي يؤدي بهم إلى اتخاذ قرارات خاطئة في بعض الحالات.

كيف تجري الأمور؟ ماهي إجراءات أخذ الطفل من والديه؟

سوف آخذ المدرسة مثالاً، علماً أنه كما ذكرت يمكن أن يكون التبليغ من الجيران أو من الطفل بنفسه.

إذا لاحظت معلمة الصف على طفل مؤشرات ما تدل على تعرّضه لعنف منزلي من أحد الأبوين أو كليهما تتخذ الخطوات التالية:

أولا – يُجرى لقاء أو عدة لقاءات في المدرسة مع الطفل الذي تبدو عليه حالة الانزواء، الكآبة، عدم التركيز في الفصل، لا يأكل بشكل جيد، أو على جسمه علامة تدل تعرضه لشكل من أشكال العنف.. بعد ذلك يجري لقاء مع العائلة مرة وحدهم، ومرة أخرى بوجود الطفل لاستيضاح الأمر.. فإذا استمرت الحالة تحول القضية إلى المرشد الاجتماعي ثم النفسي في المدرسة الذي يعقد سلسلة لقاءات مع الطفل والأهل.. إذا لاحظت المدرسة أن وضع الطفل النفسي مقلق وفي تراجع، تُرفع القضية إلى لجنة الشؤون الاجتماعية في البلدية المعنية لتتابع دراسة الحالة واتخاذ القرار المناسب (طبعاً يجري قبل اتخاذ القرار لقاء مع الأهالي أحياناً أكثر من مرة).

إذا تأكدت لجنة الشؤون الاجتماعية، بعد عدة لقاءات، ودراسة الحالة، أن الأهل لا يقومون بدورهم التربوي المطلوب، وأنهم يمارسون العنف بشكل دوري على ولدهم، يتخذ القرار بسحب الطفل وإعطائه لأسرة أخرى لرعايته، من منطلق أن واجب المجتمع حماية الطفل من أي شكل من أشكال العنف، لأنه الطرف الاضعف وبحاجة الى حماية.

إذاً المسألة ليست بهذه السهولة ولا يؤخذ الطفل من أول إشعار يدّعي بتعرّضه للعنف، وقد تستغرق دراسة الحالة أسابيع وربما شهوراً.

 

ملاحظات سريعة وأساسية:

* المعلم /ـة الذي يلاحظ إشارات عنف على الطفل ولا يبلّغ عنها فوراً يتعرض لمساءلة قانونية، بمعنى هو ملزم بالإبلاغ.

* تعتبر القوانين المعمول بها في السويد أن المسؤولية الأساسية في تربية الطفل تقع على عاتق الأهل. ويحق للأهل الذين يجدون صعوبة ما مع أولادهم طلب المساعدة من المدرسة، الشؤون الاجتماعية أو هيئات المجتمع المدني. المدرسة أو الشؤون الاجتماعية لا يتدخلون إلا عندما يشعرون ان الأهل لا يقومون بدورهم التربوي بالشكل المطلوب.

* يمكن القفز فوق جميع الإجراءات المذكورة أعلاه واتخاذ قرار سريع بسحب الطفل من أهله إذا جرى التأكد من تعرّضه للعنف الجسدي الممنهج والمتكرر والذي قد يؤثر على حياته، أو إذا ثبت أن الوالدين من مدمني الكحول أو المخدرات.

* نعم، قد يحدث أحياناً أن يتحذ بعض موظفي الشؤون الاجتماعية قراراً خاطئاً، في هذا الشأن لأسباب عدة أهمها: عدم الإلمام الكافي بثقافات وخلفيات من يتعاملون معهم أو التصور المسبق بحق بعض الثقافات، وقد يكون هناك أشخاص يعملون في تلك المؤسسات لديهم دوافع عنصرية، لكن هذا ليس الأساس ولا يجوز إلقاء اللوم على مجمل القوانين السويدية.. هناك طرق قانونية للاعتراض على قرار سحب الطفل من أهله وهذا حق تضمنه القوانين النافذة.

* قد يستغل بعض الأولاد لأسباب مختلفة، وبشكل خاص ممن هم في سن المراهقة، القوانين المعمول بها ويقدمون معلومات كاذبة عن تعرّضهم للعنف في البيت… من أجل الإفلات من سيطرة الأهالي خاصة العائلات المتزمتة دينياً أو التي ليس لديها معلومات كافية عن المجتمع السويدي. أو تلك التي تريد استخدام الأساليب (التربوية) التي ورثوها من مجتمعهم الأول وهي تتناقض أو تتعارض مع المجتمع الجديد.

طبعاً أنا ضد كل قرار خاطئ بسحب طفل من والديه إذا لم يكن قائماً على أسس قانونية ومعللة. وأتفهم وأتضامن مع الأهالي الذين يلحق بهم هذا الظلم، ولا بد من تصحيحه ومساءلة من اتخذه، لكن أسلوب الاحتجاج في مجتمع مؤسساتي له طرقه وأساليبه وليس عبر حملات هجوم وتجييش وتكرار تجربة (شاهد عيان) المضللة بحق مجتمع يعامل جميع مواطنيه (أصليين وأجانب) بسواسية في الحقوق والواجبات، بغض النظر عن انتمائهم الديني أو لون بشرتهم. ربما لهذه الحملات أهداف أخرى بعيدة.

يشكل الأجانب حوالي عشرين في المئة من سكان السويد، وجاؤوا من ثقافات متنوعة لها مفاهيمها حول أسلوب التربية، الأخلاق، العادات والتقاليد، وهذه قد تتعارض، أو تتناقض مع ثقافة البلد المضيف /السويد. ما العمل؟

الأمر متعلق بالاندماج الذي لا يعني أبداً الذوبان في المجتمع الجيد أو التخلي عن الجذور. الاندماج مسؤولية الأجانب والمجتمع السويدي معاً وإن كان المجتمع السويدي يتحمل مسؤولية أكبر. الاندماج يعني فيما يعنيه أن يأخذ القادم إلى مجتمع جديد، يختلف ربما جذرياً عن مجتمعه الأول، أن يأخذ خير ما في الثقافتين ويتخلى عن كل ما يتعارض أو يتناقض مع المجتمع الجديد ما دام قد تحمّل تكاليف وعناء الوصول إلى البلد الجديد من أجل تأمين مستقبل أفضل له ولعائلته.

 

كلمة أخيرة وأمنيتان

يشكل الأجانب عشرين في المئة من سكان السويد، وهم من الأجيال الشابة. تساهم نسبة كبيرة منهم في إعمار البلد، وتلعب دوراً إيجابياً في إغناء حياته الاقتصادية، الاجتماعية، الثقافية والفنية. هناك أطباء، معلمون، موظفون، رجال أعمال ومهندسون، سائقو قطارات، الرعاية الصحية وفي مختلف المهن، يؤدّون دورهم بشكل كامل لدرجة أنه يتردد كثيراً في وسائل الإعلام المحلية تعبير (تتوقف الحياة في السويد وتُشلّ إن توقف الأجانب عن العمل).

 

الأمنية الأولى

أن تسير عملية الاندماج بشكل أسرع وأكثر نجاعة، والانتقال من الكلام عن الاندماج إلى العمل من أجله. هذه مسؤولية السياسيين، الحكومة، البلديات بالدرجة الأولى وهيئات المجتمع المدني.. عبر وضع برنامج عملي يتضمن تعريف القادمين الجدد بالقوانين السويدية في مختلف المجالات، الحد من اتساع المناطق المنعزلة (غالبيتها أجانب).. .تقوية معارف جميع العاملين في الدولة والبلديات الذين لهم علاقة بهذا الشكل أو ذاك مع الأجانب بثقافات البلدان الاخرى كي يساعدهم ذلك في اتخاذ القرار الصحيح، بشكل خاصّ العاملين في مجال الشؤون الاجتماعية والعمل والتعليم في مختلف مراحله.

 

الأمنية الثانية

أن يرفع القائمون على الحملة الأخيرة ضد موظفي الشؤون الاجتماعية ووسائل الإعلام والمنصات الداخلية والخارجية التي تروج لها، أن يرفعوا أصواتهم كي تشمل حملتهم أيضاً فضح الممارسات المدانة التي يقوم بها بعض الأجانب مثل: الالتفاف على القوانين، التهرب من الضريبة، العمل الأسود، الانخراط في عالم الجريمة والمخدرات، الطلاق الصوري أو الزواج الصوري مقابل المال، هذه التصرفات التي يستغلها العنصريون. والمعادون للأجانب في حملاتهم السياسية ودعاياتهم الانتخابية.

كما أنها تلحق الضرر بسمعة جميع الأجانب (يذهب الصالح بالطالح كما يقال).

 

ملاحظة: لقد تناولت بشيء من التفصيل غالبية الأفكار الواردة أعلاه في الكتاب الذي أصدرته باللغتين السويدية والعربية تحت عنوان (رحلة لن تنتهي).

العدد 1105 - 01/5/2024