الحلم القاتل

د. أحمد ديركي:

يحكى كثيراً عن (الحلم) المتشكل من المعتقدات والأعراف الاجتماعية. فهذه الأمور تتشكل وفقاً لواقع مادي لتصل إلى حال من التجريد، ومن بعدها تبدو وكأنها منفصلة عنه قائمة بذاتها لا علاقة لها بواقعها المادي المشكل لها. فتحكم المجتمع بكل أطيافه وفئاته العمرية، طبعاً بعد أن تبلغ سن الوعي، فتكون قد أورثته كل هذه الأعراف والمعتقدات.

فيتشكل (حلم) لدى أفراد المجتمع، الذكور والإناث. و(الحلم) هنا للجنسين في كثير من الأحيان يكون مشتركاً وفي بعض الأحيان هناك أحلام بالشكل منفصلة لكل منهما وفي الجوهر متوحدة للجنسين.

عند (الاستقلال) النسبي للفرد في المجتمع، و(الاستقلال) هنا يعني الانفصال المادي عن دعم الأهل، أي بعد أن يكون الفرد قد دخل سوق العمل وأصبح منتجاً، بغضّ النظر عن سن دخوله سوق العمل، فهو مرتبط أيضاً بجزء منه بـ(الحلم).، يبدأ البحث عن تحقيق (الحلم).

وإذا ما غصنا قليلاً في مكونات هذا (الحلم) نجد أنه مرتبط بشكل كبير جداً بمفهوم (الزواج)، لدى الجنسين. فالطفل تربى على أن يكون (رجلاً) ليتزوج عندما يكبر ويؤسس عائلة تحمل، بمعنى (تخلد) اسم العائلة التي يحملها. والطفلة تربى على أن تكون (أمّاً) راعية لهذه العائلة. وبهذا يكون (حلمها) أن تتأهل و(حلمه) أن يتأهل. وهنا تدخل مسألة الأعراف والتقاليد للترفع من مستويات تحكمها بـ(الحلم) في عملية التأهل.

لكن جوهر (الحلم) في الواقع يتمركز على أساس الوضع القائم في المجتمع وطبيعة علاقته بالنظام السياسي القائم.

وهنا يبرز الواقع المادي في تشكيل كل الفكر المسيطر على المجتمع. فـ(حلم) الزواج في العمق ليس قائماً على مبدأ (الخلود) أو تلبية غريزة (الأمومة)، طبعاً إضافة إلى تلبية الرغبات الجنسية لدى الطرفين وفق الأعراف والتقاليد، وإن كانت كل هذه العوامل جزءاً من هذا، فالأمر يعود إلى عوامل أكثر تعقيداً. فالعامل الأساسي مرتبط بشكل بنيوي بالمسألة الإنتاجية، وطبيعة علاقة العملية الإنتاجية بالنظام السياسي.

فعند انعدام الضمانات الاجتماعية، وضمانات سن الشيخوخة، والضمانات الطبية والمادية للمسنين، يصبح (حلم) الزواج هو الضامن الأساسي لكل هذه الأمور، فيتشكل (الحلم) بالزواج وكأنه هو الضامن من كل (غدرات) الزمن والضمان للخلود، عدم موت اسم العائلة، وعدم فناء الجنس البشري و… وكل ما يمكن أن يعطى من مبررات وتفسيرات ليصور (الزواج) وكأنه أمر جوهري في المجتمع البشري، وتصور (العائلة) على أنها اللبنة الأساسية في تركيب المجتمع. والعائلة هنا المقصود بها العائلة بالمفهوم التقليدي، وكأنه هي هي منذ تشكلها مع بدايات النظام العبودي.

بينما الأمر سهل وبسيط، فكل من يود أن يعرف مدى تطور مفهوم العائلة، (الحلم)، فليدرس تطورها في الأنظمة الاقتصادية عبر التاريخ، ومن لا يريد الغوص في هذا فلينظر إلى شكل العائلة في الأنظمة ذات نمط الإنتاج الرأسمالي المتقدم.

فالبحث عن (الحلم)، المتعلق بالجوهر بمفهوم الزواج، يمر بمراحل تغير في بلادنا وهذا أمر يجب لحظه ودراسته لمعرفة كيفية مساره. فالحلم بإيجاد وظيفة واقع لا مفر منه، والحلم بدخل جيد أيضا واقع لا مفر منه والحلم بالانتهاء من الدراسة أيضا واقع و…. ولكن عند النظر إليها نرى أن جميعها هدفه (حلم) التأهل. كان الأمر صحيحاً منذ فترة وجيزة، والأخطر في كل هذا أن (الحلم) تحول من الوصول إلى خاتمته، أي الزواج، إلى خاتمة مؤلمة ألا وهي الهجرة! والهجرة لم تعد خياراً بل أصبحت (حلماً) قاتلاً في واقعه على أوطاننا!

العدد 1105 - 01/5/2024