كيف يمكن الدفع للنهوض من كبوة التخلف؟

يونس صالح:

أصبحت القضية التي تشغل البال عندنا الآن هي محاولة الدفع للنهوض من كبوة التخلف التي طال أمدها، وأصبحت همّاً لكل مهتم بالشأن العام يريد تأسيس مشروع نهضوي جديد، أو مع الأقل تحديث المشروع القديم الذي انطلق في القرن التاسع عشر على أيدي رجال استشعروا الفرق الشاسع بين ما وصلت إليه الحضارة الغربية من تقدم آنذاك، وحالة الموت والركود والتخلف التي كنا نرفل فيها، ومازالت قائمة حتى اليوم.

وفي هذا السياق تثار العديد من القضايا التفصيلية المتعلقة بمشروع النهضة، ومن بينها نشوء عدة تيارات رئيسية في القرن الماضي وهي:

  • التيار الإسلامي الذي يدعو إلى العودة للجذور الإسلامية،
  • والتيار القومي العربي الذي يدعو إلى العودة للأصول العربية،
  • والتيار الليبرالي الذي يدعو إلى الاهتمام بالفرد والحريات،
  • والتيار الاشتراكي الذي يدعو إلى العدالة الاجتماعية.

وهذه التيارات الرئيسية قد عبرت عنها الدوريات الثقافية التي كانت تصدرها في القرن الماضي.

بيد أن المشكلة قد كمنت في الإقصاء الذي مارسته بعض هذه التيارات التي اشتغلت بالشأن العام ضد البعض الآخر في مجتمعنا، لكن أخطرها ما اعتمد على النص الديني.

لقد نشأت هذه المشكلة بسبب تجذر التخلف بشكل عام وبطء التطور الاقتصادي والاجتماعي، فقد ورثنا جزءاً كبيراً من التقاليد القبلية والتعصب للشكل والدفاع عنه بطريقة (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً). وبالطبع مما زاد من تركيز هذه السمة أننا لم نتعرف على الديمقراطية بشكلها الواسع لفترات طويلة، كي ترسخ الاعتراف بالآخر واحترامه، ومن ثم نشأت هذه الحالة، وفي تقديري أننا إذا كنا نبحث عن رؤى جديدة لمشروع نهضوي جديد، لابد أن نضع في اعتبارنا أنه ليس من حق أحد أن يحتكر لنفسه وحده الحقيقة، وليس من حق أحد أن يقول إنه يمثّل الله، ولا أن يقول إنه يمثل الوطن، فمثل هذه الأمور باعتبارها مشتركات للشعب كلها، يجب أن تخرج من نطاق الحوارات السياسية، فليس من حق أحد أن يقول إنه هو الذي يتحدث باسمها، وأنه ليس من حق الآخرين فعل ذلك، كما أنه حين يقول إنسان إنه على صواب مطلق، وأن الآخرين على خطأ مطلق، فهذا في النهاية سوف يؤدي إلى الإقصاء والعنف.

إن الإشكالية عندنا بشكل عام هي أن هذه التيارات السياسية مازالت هي التي تصوغ مشروع البلاد النهضوي، وهي كما ذكرت: الإسلامي، والقومي، والماركسي، والليبرالي.

إن المشكلة الأساسية هي أن هذه التيارات لاتزال تراوح في مكانها، وفيها أجنحة غالبة تعمل على ذلك، فلدينا قوميون توقفوا عند أفكار مؤسسي الحركة القومية، وناصريون عند جمال عبد الناصر، وإسلاميون لا يريدون تجاوز أفكار حسن البنا، بل هناك من تقهقر عن هذه الأفكار إلى الوراء، وهذا هو جوهر المشكلة. وهنا لابد لكل تيار أن يقوم بتجديد أفكاره، بحيث تكون متوائمة وضرورات إقامة دولة مدنية ديمقراطية قائمة على التعدد والتنوع، أي الدولة العلمانية، التي يشرّع الناس فيها بأنفسهم لأنفسهم وفق معطيات زمانهم، وينطبق ذلك على الجميع.

إن عملية التجريد والتفاعل بهذا الشكل يمكن أن تلعب دوراً أساسياً في عملية التحديث.

وأخيراً لابد من الإشارة إلى أن مشروع النهضة في تجاربه السابقة في القرنين التاسع عشر والعشرين لم يبذل الاهتمام الكافي من أجل تجديد الفكر الديني، على الرغم من أن مشاريع النهضة الأوربية اهتمت بهذا الجانب وأسهمت فيه بقدر كبير.. إن التيار الديني بعدما كان جزءاً من مشروع النهضة ارتد لكي يكون جزءاً من مشروع العودة إلى الماضي، أو مشروع إعادة بناء الماضي كما كان، وهذا جزء من الإشكاليات التي علينا مواجهتها، وعلينا أن نخوض معه معركة فكرية، وأن نشاركه في محاولة إنهاء الفجوة التي أدت إلى عدم تجديد الخطاب الديني وعدم تحديثه بعدما أغلق باب الاجتهاد منذ القرن الرابع الهجري وترك لنا أحد عشر قرناً خالية من الاجتهاد، تجددت فيها الدنيا.

إن الأفكار الدينية المتزمتة تشكل عرقلة لمشروع النهضة وتثير المخاوف كثيراً، وخصوصاً لدى قطاعات واسعة عن الشعب، وتعزز الفكر الاستبدادي وتؤدي إلى نتائج كارثية.

ولا شك أن هناك أسباباً لتعطل المشروع النهضوي، أهمّها حسب ما أرى هي أولاً التطور اللامتكافئ بين العالم الأول الذي بدأ بصياغة مشروعه النهضوي متقدماً ثلاثة قرون عن بلداننا التي بدأت بتحقيق هذه المشروع، في الوقت الذي كان العالم الأول قد تحول فيه من مشروع نهضوي إلى مشروع استعماري، مما حال دون التفاعل الصحي بين الطرفين، وثانيهما أن مشروع النهضة عجز عن تجديد الفكر الديني وإحياء المدرسة العقلانية في التراث الإسلامي، وثالثهما إن مشروع النهضة قد أدير في ظل أوضاع استبدادية أحدثت خللاً لا في ترتيب أولوياته فحسب، ولكنها حالت أيضاً دون ازدهار جماعات منظمة، تستطيع أن تصونه، وأن تحول بينه وبين تدمير نفسه، وفي الوقت الملائم، مما كان سيقلل من الخسارة.

 

العدد 1105 - 01/5/2024