طفولة مفتوحة على أسئلة المطلق

عباس حيروقة:

من أجمل الأشياء التي لا يمكن أن تغيب عن ذهن أي كاتب أو أديب أو شاعر وذاكرته تلك المرحلة الأهم في حياة الإنسان بشكل عام والمبدع بشكل خاص، إذ تساهم في تشكيل ملامح شخصيته التي تنعكس على نصّه، فتمنحه ملامح تلك المرحلة البهية الطافحة بالماء وبالنور وبالعصافير.. بأناشيد السواقي وتراتيل الحقول وقداديس أقمار العاشقين حين الغروب.

المكان بمفرداته يشكل ذاك القاموس الخاص بالمبدع، فنرى الشاعر الذي نشأ في مدينة دمشق مثلاً، وعاش طفولته في شوارعها ونام مراراً في فيء جدران قلعتها وجامعها الأموي …الخ، تختلف مفرداته عن شاعر عاش طفولة مضرجة بالينابيع وبالسواقي.. بالبيادر.. طفولة الركض حفاة على ضفة نهر، أو الإصغاء مطوّلاً لصوت الريح من أعالي جبل بين غابات السنديان.

نعم، تلك الأيام التي لم ولن تغيب عن ذاكرتنا، لأنها أمست ذاكرتنا وأكثر.

نعم، هي طفولتنا الباذخة الطافحة بالشعر وبالشعرية، وهي التي ساهمت في تشكيل رؤاي الخاصة وأسّست لعلاقات مترفة مع الأشياء، إذ كنت أهيم بتأمل حقول القمح اليانعة الممتدة تجاه الأزرق الأبدي.. كنت أرخي بكل غمام جسدي على سنابل غضّة، وأتأمل رقصات الغمام المولوية وتماهي جبّته البيضاء مع أزرق سماوات الله.

كنت أصغي مطولاً لسقسقة السواقي وهي تمضي في كرنفالات الفرح تجاه حقول ألبسها العطش أثواب الذبول والكآبة، يا ألله ما أجمل لغة التراب!! كم تطفح بالحنين وبالنقاء وهي تعبّر للماء عن عشقها السرمدي الأزلي الأبدي.

نعم، وكم كان يروق لي اللعب بالماء والتراب معاً، أجبلهما وأشكل من الطين كائنات تشبهنا، أحملها وأضعها في مكان قصيّ وأطلق خيالاتي وأخيلة القصيدة، أقترب جداً منها، أنفخ فيها من روحي.. أقترب أكثر وأصيخ لعلّها تتأوه.. تتنفس.. أبتعد قليلاً وأراقبها عن بعد، كنت أتساءل بقلق وتوجس: ماذا لو تبعتني وصادقتني؟!

كنت أتسلق صخور جبالنا الصوان بحثاً عن أعشاش (البيوض) وعن الأعشاب العطرية الفواحة كـ (الزوفا – الزعتر البري – زهر الزعرور- الختمية – زغفة السنديان – حب البلاّن -..الخ).

أحاول تهجّي مفردات شلالات (الزاوي) المتاخمة لقريتي وهي تسّاقط بكل حنان الكون على صخرات بيضاء لتنثر علينا كل رذاذ النور، فنؤول نجوماً وأقماراً وحكايات في سجلات السماء.

أصغي لنشيد الماء وهو يكتب قصائده وينشدها على مسمع كل أسراب الحمام، اليمام، العصافير، وأطفال القرى الممعنة في النحولة والضالعة في شغب الفَراش حين ربيع.

أتأمل مفردات الله المسطورة في آفاقه بعينين نهمتين جائعتين للجمال.

أتأمل حبو الشمس تجاهنا وأنا ممدد على سطح بيت جدي الطيني، فأحسبها ستندسّ بعد حين في فراشي، وكان صوت (موتور المياه) الوحيد الذي يروي (المقاتي) وما تيسر لفلاح ذاك الزمان زراعته.

ذاك الصوت مازال يقرع نوافذ روحي بأنامل من ياسمين كتلك الأصوات التي تطلقها القرويات وهن عائدات من الكروم وعلى رؤوسهن (قراطل) تفور عنباً ومواويل.

كانت طفولة مفتوحة على أسئلة المطلق.

العدد 1105 - 01/5/2024