في ثقافة البناء والحرية

عباس حيروقة:

في كلّ دول العالم المتحضر ثمة قناعات عند مواطنيها، بل ثقافة حضارية أصيلة تربوا عليها وعملوا بها.. القناعات صبت في خدمة المجتمع وبنية تلك الدولة، فعلى سبيل المثال لا الحصر المواطن لديهم حال تسلّمه أية مسؤولية يجدّ في البحث عن آليات لنجاحه ويتجسد منسوب هذا النجاح بمقدار الخدمات التي يقدمها لبلده ولأبناء بلده، بل ويتسابق كل من معه من فريق العمل في التعاون للوصول إلى حالة ترضي المواطن لديهم.. تحت شعار خدمة بلدهم ومواطنيهم أولاً وثانياً وعاشراً.

أخال أن ثقافتهم هذه ساهمت إلى حد كبير في التطوير والتقدم والبناء السليم على أساسات متينة، وبالتالي كلٌّ يتابع البناء وبكل ثقة من النقطة التي وصل إليها سلفه في الإدارة.

أما نحن في عالمنا الثالث (وربما أصبحنا العاشر) فثمة ثقافات وقناعات، وإن صح التعبير، بل هي عقد نفسية اجتماعية نعيشها، ما أنزل الله بها من سلطان.. نلمسها أنّى اتجهنا في مختلف مؤسساتنا ودوائرنا الرسمية العامة منها أو الخاصة.

يحدث هذا وذاك وسط غياب المعايير الحقيقية للنجاح وللانتماء، وقبل كل هذا وذاك وسط فوضى أخلاقية تعتمد على الولاءات أكثر من اعتمادها على الكفاءات. ومن الممكن أن أتحدث عن مثالين يعكسان مدى هشاشة منظوماتنا النفسية والاجتماعية في عالمنا هذا ودون التعميم إذ لا بد من استثناءات ولو نادرة.

*_ على سبيل المثال إن الشخص المسؤول لدينا حال تسلّمه أي المناصب بغض النظر عن درجتها يحاول إزاحة فريق عمل المدير السابق ويأتي بفريقه الخاص المتوافق معه بالرؤى والتطلعات، فينشغل بهدم كل ما بُني قبل تسلّمه، ويعيد البناء من جديد وسط ضخ إعلامي كبير وتحت عناوين وشعارات براقة كرتونية هشة، ويصدر صورة للآخر أنه الأكثر فهماً ووعياً وانتماء وما يقوم به لم يسبقه إليه أحد من قبل.

ولكن في حقيقة الأمر التي لم تعد تخفى على أحد، يكون التركيز الأكبر لديه وفريقه على إيجاد آليات جديدة لبناء ثروات وأمجاد وعلاقات خاصة، ولا يتأتى هذا وذاك في ظل سيادة القانون، بل العكس من خلال إحداث خروقات وتطاولات على القانون، فتتشكل مافيات من شأنها سن تشريعات جديدة تخدم سياساتهم الفاسدة والمفسدة للمجتمع ومنظومته الأخلاقية.

*_ ومن الصور التي تدل على المراهقات إن لم نقل على القصور النفسي والاجتماعي والأخلاقي لدينا في عالمنا العربي هذا على سبيل المثال:

رفض المدير أنّى كانت درجة إدارته حتى ولو كان مدير مدرسة في قرية نائية العودة إلى ما كان عليه بعد إنهاء تكليفه بمهمته بحجج واهية حتى ولو اضطر إلى تقديم استقالته، وإن حدث ذلك يرفض أيضاً زيارة ذاك المكان بأي صفة أخرى معتبراً أن ذلك يحط من مكانته وأدبياته …الخ.

في حين نجد أن هذا لم ولن يحدث في المجتمعات المتحضرة، فنرى كيف أن رئيس أكبر دول العالم حال انتهاء ولايته يعود إلى ما كان عليه مواطناً عادياً يمارس مهامه الوظيفية بكل تعاون ومحبة في مجتمع واعٍ وراقٍ، القانون فيه هو الصوت الأعلى والأوحد والمسموع من قبل الجميع دون استثناء.

نعم، للأسف هذا ما حدث وما زال يحدث، فأصبح من مفرداتنا البدهية المعيشة يومياً.

كم علينا أن نعمل معاً دون استثناء على المطالبة بتعزيز ثقافة القانون.. الانتماء.. المواطنة.. ثقافة البناء، بناء الإنسان من الداخل بناء يساعده على مواجهة قبح وخراب العالم!

بناء ثقافة احترام القانون وسيادته ونبذ ثقافة الفوضى والاعتداء على الآخر حرية الآخر!

بناء ثقافة المواطن والمواطنة والتعريف بها وبحقوقها ومسؤولياتها!

بناء ثقافة الحرية_ التي تعتبر من ألف باء الحياة _؛

حرية الراي والعبادة والاختلاف للوصول إلى صيغ وطنية توافقية تحت سقف وطن سليم معافى.

كم من مهام جمة تنتظرنا نحن أبناء العالم الثالث عموماً وسورية على وجه أدق للوصول إلى مجتمع أكثر وعياً وفهماً وانتماء للحق وللخير وللجمال.. للإنسان وإنسانية الإنسان..

ولا أخال أن المجتمع المتحضر قد دفع ضريبة أكبر مما دفعناها نحن كسوريين في سنواتنا العشر الأخيرة، حتى وصل إلى ما هو عليه اليوم من تحرر وحرية وانتماء.

العدد 1105 - 01/5/2024