ألا يجب استرداد الحيوية المفقودة للفئات الوسطى؟

يونس صالح:

تتعرض الفئات الوسطى عندنا لعدد كبير من المشكلات الاجتماعية والاقتصادية تهدد وجود تلك الفئات، وتنذر باحتمال تآكلها وتراجعها إن لم يكن اختفاؤها تماماً.

وبعد أن كانت تلك الفئات تعتبر هي العمود الفقري في بناء المجتمع، بفضل الدور الاقتصادي والاجتماعي الذي تقوم به، تدهور وضعها بصورة كارثية، وتراجعت قيمتها، وزحفت إليها سلوكيات وأنماط جديدة من قيم وأخلاقيات كانت تعتبر ممجوجة ومنبوذة من المجتمع ككل.. فما الذي يمكن عمله لتفادي النتائج الاجتماعية والاقتصادية بل والسياسية الوخيمة التي قد تترتب على الاختفاء المحتمل بل والمتوقع لهذه الفئات، إن لم يتم التصدي لتلك العوامل المناوئة والقضاء عليها أو على الأقل التخفيف من آثارها السلبية؟

 

ما هي الفئة الوسطى؟

قد يكون من الصعب الحصول على تعريف متفق عليه للفئة الوسطى، والدعائم الأساسية التي تقوم عليها والملامح الخاصة التي تنفرد بها وتميزها بوضوح وبشكل قاطع عن غيرها، وذلك نظراً لوقوعها بين طرفين مختلفين أشد الاختلاف، وهما الطبقات الدنيا (الطبقة العاملة وفقراء الفلاحين) والطبقات الغنية (طبقة الرأسماليين وكبار الملاكين والتجار والمقاولين).

ونظراً لتعقّد تكوين هذه الفئات التي تحب أن تنسب إلى نفسها أصحاب المهن الرفيعة المميزة اجتماعياً، مثل أساتذة الجامعات والأطباء ورجال القضاء والمحامين ومديري البنوك ومن إليهم، فكثيراً ما تختلف الآراء حول انتساب بعض هؤلاء إلى تلك الفئة لسبب أو لآخر.

وعلى أي حال، فإن الكثير من الكتاب يرون أن الفئة الوسطى قد دلفت إلى القرن الحادي والعشرين، وهي ترزح تحت أعباء الحياة ومشكلات الفقر، وتعيش في ظروف صعبة، وأن دخلها يكاد لا يكفي لسد مطالبها الضرورية، وأن أوضاعها الحياتية لا ترتفع كثيراً عن حد الفقر، وأنه إذا كان الوضع سيستمر على هذه الحال، فإن البلاد ستتحول إلى مجتمع يقوم على اقتصاد ذي مستويين، حيث تشغل المستوى الأعلى منهما طبقة صغيرة محدودة من الأغنياء الذين يتمتعون بالثراء الفاحش والسلطة السياسية، بينما يحتل المستوى الأدنى بقية السكان بمن فيهم الفئة الوسطى المتآكلة والتي تتهاوى إلى الأرض كما لو كان بفعل الجاذبية، وليس أدل على ذلك من أن رب الأسرة من الفئة الوسطى عندنا كان حتى عهد غير بعيد يكتفي بممارسة عمل واحد دائم يضمن للأسرة دخلاً مادياً معقولاً، وقد اختفى ذلك كله الآن بحيث قد يضطر كلا الزوجين لمزاولة أكثر من عمل.

وقد ألقت العولمة كثيراً من الأعباء والضغوط على الفئات الوسطى، وأتاحت الفرص الواسعة للطبقات الموسرة لجمع مزيد من الثروات والامتيازات، فإن الفئات الوسطى لم تحظ بنصيب عادل من تلك المكاسب والفوائد، بل كان الأمر في الأغلب عكس ذلك تماماً.

وربما كان تراجع القيم التي تحملها الفئات الوسطى في مجتمعنا، واحتمال زيادة هذا التراجع بمرور الزمن هو الأمر الذي يثير أكبر قدر من القلق، ويبحث المفكرون عن إيجاد حل لهذا التراجع، خاصة أن الفئات الوسطى كانت تؤلف دائماً ما يعتبره هؤلاء المفكرون (روح المجتمع)، وأن مجتمعاً بغير فئات وسطى تحافظ على التوازن الاجتماعي هو مجتمع بغير روح.. وهذا يستدعي ضرورة البحث عن وسائل وأساليب تكفل إعادة التوازن الاجتماعي، وضرورة إعادة النظر بمجمل السياسات الاقتصادية والاجتماعية التي سارت عليها البلاد خلال أكثر من عقدين.

إن استرداد هذه الفئات لحيويتها وفاعليتها المفقودتين يتطلب حدوث تعديلات جذرية في بناء مجتمع الغد، وهي تعديلات ستفرضها الأوضاع المستجدة في المستقبل دون ريب، رغم صعوبة تحديدها مسبقاً.

 

العدد 1105 - 01/5/2024