في عالم المفارقات

د. أحمد ديركي:

تعجّ الحياة اليومية بمجموعة من المفارقات الصاخبة التي نادراً ما يفطن إليها العقل البشري. ومن الأندر التفكر بها في عالم صاخب يسعى به الجنس البشري إلى تأمين لقمة عيشه، وبخاصة بعد أن أجمعت معظم إحصائيات العالم أن هناك حفنة قليلة جداً من هذا الجنس البشري تملك ما يملكه 80% منه.

فهذه الثلة القليلة من الجنس البشري الحالي، والمعروف باسم (الجنس العاقل)، تتمتع بثروات طائلة تمكّنها من العيش والتمتع ليس فقط برفاهية الرفاهية، بل تمكّنها أيضاً أن تغادر الأرض لتعيش قريباً منها في القريب العاجل، من دون أن تفقد أي نوع من رفاهية الرفاهية التي تتنعم بها. فباستطاعتها أن تغادرها عندما تشاء في بدايات عام 2025، حين يكون قد بني أول فندق قرب القمر، ويوجد فيه كل وسائل الرفاهية والراحة التي يمكن أن يحلم بها (الجنس العاقل). وتكلفة الإقامة هناك، طبعاً إضافة إلى تكاليف السفر، ضئيلة جداً مقارنة بثرواتهم. فعندما يشعرون بالملل أو بأي نوع من التهديد، وبخاصة ما يحكى اليوم عن التلوث البيئي والتغير المناخي، وما يمكن لهذه الأمور أن تشكل تهديداً مباشراً على (الجنس العاقل) قد تؤدي إلى فنائه، يحزمون حقائبهم ويغادرون للإقامة في الفندق، ذي النجوم السبع، المبني بالقرب من القمر. طبعاً لن يكون لخوفهم أي علاقة بالانتفاضات والثورات التي تقوم ضدهم.

يعود اطمئنانهم إلى عدم الثورة ضدهم إلى عوامل متعددة، ومن أبرزها غياب الوعي الطبقي لدى بقية (الجنس العاقل)، على الرغم من وصفه بـ(الجنس العاقل). فقد استطاعت هذه الحفنة منه أن تشوه وعي البقية إلى حد أصبح فيه هذا التشويه (مسلّمة). ويعتقد معظم هذا (الجنس العاقل) أن ثروة هؤلاء الحفنة لم تأتِ من استغلال عمل بقية (الجنس العاقل) بل هي حقّ لها! ولا من تعريف من أين هذا الحق! وبهذا فهذه الحفنة مطمئنة من ناحية ثورة البقية عليهم، وهم متأكدون من أن هذا الأمر غير ممكن في ظل غياب أحزاب شيوعية خارج جدران مكاتبها.

وبقية (الجنس العاقل) تعمل ما لا يقل عن 8 ساعات يومياً، ومن بعدها تبحث عن عمل آخر لتأمين تكاليف عيشها. وفي نهاية العام، أي عند حصولها على إجازتها السنوية، إن حصلت عليها، تبحث عن مكان رخيص وقريب من مكان إقامتها لتمضي عطلتها فيه. ولكن في ظل ما هو قائم من أزمات اقتصادية، ليس في عالمنا العربي فقط، بل في العالم برمته، تختصر هذه الإجازات وفي أحيان كثيرة تلغى.

كيف لهذه الحفنة القليلة أن تقضي فترة نقاهة بالقرب من القمر في فندق النجوم السبع، وبتكلفة تقارب 100 ألف دولار لليوم الواحد، ضمناً تكاليف السفر، من دون أن تعمل أكثر من 8 ساعات يوماً وعمل إضافي بعد دوام العمل، في الوقت الذي يعمل فيه العامل 8 ساعات عمل وعمل إضافي ويختصر إجازته السنوية والتي مقرها قريب من موقعه الجغرافي على الأرض، لعدم مقدرته على دفع تكاليفها؟

أليست هذه مفارقة تستحق التفكير في مدى وعي (الجنس العاقل)؟ وكيف تعمل هذه الحفنة القليلة على مص دماء من يعملون، وتشوه وعيهم الطبقي لتذهب إلى الفندق بالقرب من القمر وتتمتع بمناظر خلابة للأرض، بينما العامل يفكر كيف له أن يقي أفراد أسرته من الجوع؟

العدد 1105 - 01/5/2024