تربيةٌ حديثةٌ بلا أخلاق

إيناس ونوس:

كنتُ في الرَّابعة من عمري حينما عدتُ للبيت غير قادرةٍ على التَّوقُّف عن البكاء، ما أثار دهشة أمي واستغرابها ومن ثمَّ سخطها لأني لا أتمكّن من الرَّدِّ على تساؤلاتها عن سبب هذا البكاء، وبعد عدَّة محاولاتٍ منها لتهدئتي، استطعت أن أتلفَّظ ببعض الكلمات، فهمت منها أمي أنَّ صديقي قد نعتني بكلمةٍ معيبةٍ لا تليق به ولا بي، وبدأ سيلٌ من الأسئلة عن ماهية تلك الكلمة ومعناها، غير أني خفت أن أقولها فتضربني أمي، لأننا في البيت لا نتلفَّظ بتلك المفردات، لكن بعدما طمأنتني أمي أنها لن توبِّخني ولن تضربني قلت لها تلك الكلمة.. ووعدتني أنها ستتكلم مع أمه كي لا يُعيد ما فعله.

اليوم، حين أذكر تلك الحادثة أشعر برغبةٍ في الضَّحك على تلك البراءة وذاك التَّفكير، وفي الوقت ذاته أدرك أنني لولا تلك الطَّريقة في التَّربية لما فهمت أنَّ للحديث مع الآخرين آداباً لا يجوز تجاوزها، هذه الآداب التي نراها قد تلاشت في يومنا هذا، فنشهد في كل مكانٍ استخدام ألفاظ ومصطلحاتٍ وكلماتٍ لا تعبِّر عن التَّهذيب أبداً، بل ومن المفترض إذا ما انتبهنا إلى معناها الحقيقي أن ندرك أنها ستكون سبباً في خلافٍ طويلٍ لن يزول.

اختلفت معايير المجتمع بشكلٍ مثيرٍ للدَّهشة في أيامنا هذه، إذ بات خطاب النَّاس فيما بينهم في البيت والمدرسة والشَّارع والعمل خطاباً لا يخلو من ألفاظٍ مهينةٍ ومخجلة، والغريب في الأمر حين مناقشته أن يأتي ردٌّ ليقول إن استخدام تلك الألفاظ يعتبر تحبُّباً ووسيلةٌ للتَّقرُّب، كما أنه يدلُّ على عمق العلاقة التي تربط بين الأشخاص، وفي معنىً آخر بات معياراً للقوة والتَّباهي وامتلاك الثَّقافة!! فهل انحدرت ثقافة مجتمعنا إلى هذا الحد!؟

نعم وبكل أسف، انحدرت الثَّقافة والقيم المجتمعية والأخلاقية والمنظومة التّربوية لدى كثيرين بشكلٍ بات من الضَّروري والملحّ التَّدخل فيه، إذ تلاشت الأنوثة والرِّقة، كما غابت الرُّجولة والعنفوان، وباتت مفرداتٌ مثل الأم أو الأب أو الأخت علكةً تلوكها الألسن بكلِّ بساطةٍ، إضافة إلى استخدام مفرداتٍ فيها الكثير من الإيحاءات الجنسية والجسدية ما جعل كلَّ المحرَّمات في خبر كان.

قد يقول قائلٌ إن استخدام هذه الألفاظ قديمٌ قدم الزَّمان، فعلام الاستهجان؟؟

نعم إنه قديم، لكنه كان خاصاً ببعض الأشخاص ممّن كنّا نصفهم بعديمي الأخلاق والتَّربية، كما أن هذا الانحدار بكل أشكاله أحد أهم تجليات ما عاشته البلاد في السَّنوات السَّابقة، وما وعي عليه جيل اليوم، غدا المجتمع برمَّته مستخدماً لما شابه من تلك الألفاظ، ما يجعل الوضع خطراً بحقِّ الجميع دون استثناء، لذا يجب الانتباه وإعادة النَّظر في طرق التربية وأسس التعامل مع الآخرين مثل آداب الحوار وغيرها، وهذا شأننا جميعاً، انطلاقاً من المنزل أصغر دائرة في المجتمع حتى أكبرها، مع التأكيد على أهمية دور المعنيين في الحقل النَّفسي والاجتماعي وإفساح المجال لهم للقيام بعملهم على أكمل وجه، وإلاّ لن نتمكّن من الوقوف في وجه أبنائنا الصِّغار ومنعهم من التلفُّظ بما يتفوَّه به أقرانهم، لأنهم سيعيشون حالةً من الفصام الدَّاخلي بين ما يتربّون عليه وما يسمعونه خارج إطار بيوتهم، فيشعرون بأنهم أقلُّ من غيرهم، وهنا الطَّامة الكبرى التي يعيش فيها مربي اليوم بين المفروض والواقع.

العدد 1104 - 24/4/2024