التنمية البشرية قبل التنمية الحجرية

يونس صالح:

حين نتأمل مسار التنمية الراهن في بلادنا بشكل عام، لابد أن نتوقف أمام ظاهرة لافتة، تتمثل في شيوع العديد من مظاهر الحداثة الشكلية التي تتجلى في أساليب وطرق العمارة الأجنبية وتشييد المباني الضخمة والمجمعات التجارية المنقولة عن النمط الأمريكي، والتي أخذت تصبح معلماً من معالم الاستهلاك الشره عند شريحة ليست بالقليلة.

ويمكننا اليوم أن نتأمل واقعاً ممتلئاً بالتناقضات نتيجة إهمال مسار التنمية البشرية لمصلحة تنمية الحجر، عبر شواهد لا تحصى، كما أننا نرى التسابق لإنشاء الجامعات والمعاهد الخاصة، قبل أن نسعى لتطوير المستوى الأكاديمي في الجامعات الوطنية، التي تحوّل أغلبها إلى الاهتمام فقط بمنح الشهادات وإقامة المهرجانات لتوزيع تلك الشهادات، بدلاً من إنشاء أكاديميات متخصصة لتعليم أبناء الوطن تعليماً قادراً على إنهاض التنمية عندنا بصورة حقيقية.

وبإلقاء نظرة مدققة على الواقع الثقافي اليوم عندنا، يتبين لنا أن ما بدأته البلاد منذ مرحلة ما بعد الاستقلال، فيما يتعلق بالعناية بالعنصر البشري، كمحور مواز من محاور التنمية، قد تقلص وتراجع من الناحية النوعية كثيراً.

ولعله ليس من المبالغة الإشارة إلى العلاقة الطردية بين هذا الواقع الثقافي المتردي وانحساره وعلاقته بارتفاع نبرة أصوات متشددة تريد العودة بالمجتمع إلى عصور خلت، مثيرةً للنعرات القبلية والمذهبية والطائفية، لا يبررها مجتمع حديث يقوم على أسس الديمقراطية والدساتير الحديثة، كما يقوم على أساس من التنوع والاختلاف يتأسس على أسس التسامح والمعرفة، لا على الانغلاق واعتماد الفكر الأحادي، ولا يمكن أن تحقق الثقافة الدور المأمول منها إذا لم يوضع العنصر البشري على رأس أوليات التنمية، بحيث يتلقى الفرد تعليماً جيداً، وفقاً لأحدث نظم التعليم، وأن يتلقى المعارف بحرية تامة، وأن تتاح له الوسائل التي تمكنه من التعرف على ما ينجز في العالم من المعارف وأعمال العقل، ووضع كل الأفكار تحت مجهر النقد ليكتسب المقدرة النقدية التي تمكنه من التمييز والوعي والابتكار.

إن مثل هذه الشخصية هي ما نحتاج إلى بنائها، لتحقيق التنمية في شكلها الحقيقي، والنهضة التي نصبو إليها. لقد خاضت بلادنا كفاحاً ونضالاً قويين للتحرر من المستعمر، ثم لتأسيس نهضتها المعاصرة عبر استعادة تراث التنوير العقلي المتطور، وبناء شخصية قادرة على التعامل مع لغة العصر الحديث، بندية ومرونة وطموح، للوصول بثقافتنا إلى ما تستحق من مكانة، ويجب ألا يضيع هذا الكفاح والنضال هباء منثوراً.

 

العدد 1104 - 24/4/2024