عبودية العولمة والاستبداد

إيمان أحمد ونوس:

في الثاني من كانون الأول من كل عام يجري إحياء اليوم الدولي لإلغاء الرق، وهو التاريخ الذي اعتمدته الجمعية العامة لاتفاقية الأمم المتحدة، لقمع الاتجار بالبشر واستغلال بغاء الغير، وقد دخلت هذه الاتفاقية حيّز التنفيذ عام 1951. فلنتمعّن في الزمن الذي تلا هذه الاتفاقية ونتساءل: هل تخلّصنا حقيقة من الرقّ والعبودية والاستغلال بكل أشكاله واتجاهاته!؟

لقد تعرّفنا إلى مفهوم الرق والعبودية القديمة من روايات وأفلام ودراسات أرّخت لتلك الحقبة من تاريخ البشرية، فالرق ظاهرة عريقة في القِدَم، نشأت عند بدء استعباد الإنسان واستغلاله لأخيه الإنسان في فترة التحوّل من مرحلة الصيد إلى الزراعة، لاسيما المُنَظَّمة منها كوسيلة لكسب الرزق. وبهذا الصدد يقول المؤرخ (ول ديورانت) في موسوعته الشهيرة (قصة الحضارة) ما يلي:

(بينما كانت الزراعة تُنشِئ المدنية إنشاءً، فإنها إلى جانب انتهائها إلى نظام الملكية، انتهت كذلك إلى نظام الرق الذي لم يكن معروفاً في الجماعات التي كانت تقوم حياتها على الصيد الخالص، لأن زوجة الصائد وأبناؤه كانوا يقومون بالأعمال الدّنّيّة، وكان فيهم الكفاية لذلك. وأمّا الرجال فقد كانت تتعاقب في حياتهم مرحلة تضطرب بنشاط الصيد أو القتال، يتلوها مرحلة من فتور الاسترخاء والدعة بعد الجهد والعناء. فلكي تُحوّل هذا النشاط المُتقطّع إلى عمل مُطّرد، لا بدّ لذلك من شيئين: العناية بالأرض عناية تتكرّر كل يوم، وتنظيم العمل).

لا شكّ أن العمل أيّاً كان نوعه وأيّاً كانت الحاجة إليه، قد أفسح المجال واسعاً أمام ظاهرة الاستغلال التي تُمهّد ولا ريب لحالة العبودية والاسترقاق في مختلف المجتمعات البشرية التي شهدت تطوراً ملحوظاً في هذا المجال منذ الثورة الصناعية الأولى والثانية وصولاً إلى ثورة التكنولوجيا الحديثة وما رافقها من عولمة ساهمت إلى حدٍّ كبير بانتشار أشكال جديدة من العبودية المرتدية لبوساً حضارياً في محاولة لإبعاد الشبهة عنها. فالتسليع والتشييء الذي وصله إنسان العصر الحديث ليس إلاّ نوعاً من تلك العبودية لمختلف السلع والتقنيات التي أنتجتها ثورة التكنولوجيا، بحيث لم يعد للإنسان بحدِّ ذاته من قيمة تُذكر أمام امتلاكه لتلك المنتجات التي باتت بنظره ضرورية إلى حدِّ الهوس مهما كانت قدراته معدومة، ما قاده إلى حالة من العبودية والاسترقاق لها وبرضاً كامل منه، وهنا تكمن الخطورة الأكبر المتجليّة في التماهي التام مع تلك المنتجات وعبوديتها القائمة. ولنا فيما نراه يومياً في مجتمعاتنا رغم كل مظاهر الفقر خير مثال على هذا الاستعباد.

وهناك ولا ريب استعباد حديث آخر يتمثّل في سطوة وسيطرة رأس المال والشركات العابرة للقارّات والمتحكّمة بمصائر الشعوب والبلدان واقتصاداتها، ما حدا بالدول الرأسمالية الكبرى إلى احتلال الدول الضعيفة احتلال غير تقليدي، من خلال التحكّم بمواردها وثرواتها وفرض النظام السياسي والاقتصادي الذي يصبُّ في المحصّلة في بنوكها عبر تشاركية باتت معروفة ما بين النظم الحاكمة ومصالح تلك الدول الرأسمالية، في تجاهل تام لمصالح الفقراء والمهمّشين من أبناء البلدان المُستضعفة رغم امتلاكها الخيرات والثروات الوفيرة. وهذا ما يُمثّل استعباداً حقيقياً للحكومات والشعوب على حدٍّ سواء.

إننا نعيش اليوم أبشع أنواع الرقّ والعبودية في مجتمعاتنا التي تسودها حتى اليوم البطريركية- الأبوية في مختلف السلطات الدينية والسياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية و…الخ، بحيث تتمُّ السيطرة عبر تلك السلطات على المجتمع ككل، فلا يقوى على الرفض لأنه لا يمتلك أدوات الرفض ومقدراته من جهة، ولأنه من جهة أخرى، وهي أخطر، قد تماهى مع تلك السيطرة التي بات يراها ضرورية لاستمرار حياته كضرورة الماء والهواء، وهذا أيضاً عبودية أشدُّ ضراوة على الإنسان والمجتمع معاً. ولعلّ ما نعيشه اليوم من سعي محموم للحصول على ما يُبقينا على قيد حياة مُترعة بالذل والهوان والفقر والجوع والبرد، لهو أبشع أنواع العبودية التي فرضها نظام اقتصاد السوق المنفلت من كل قيد وعقال تلبية لنهم ثلّة ضئيلة من مقتنصي الفرص ومصّاصي دماء الملايين وناهبي قوتهم، إضافة إلى أولئك الذين استثمروا في الحرب والدمار حتى باتوا بين ليلة وضحاها من أثرى الأثرياء رغم ضآلة مكانتهم وعمرهم الذي لا يتناسب مع حجم ومقدار ما يملكون من مال ومن قدرة على التحكّم بمصير البلاد والعباد.

وفي مقلب آخر، حين تتماهى النساء مع الأعراف الاجتماعية والدينية وكذلك القوانين التمييزية ضدّها، وتعتبرها قدراً محتوماً، فإنها تعيش أسوأ أنواع العبودية، لاسيما حين لا تمتلك الجرأة أو الرغبة في التصدي لاضطهادها وتعنيفها رغم امتلاك غالبيتهن لأعلى الشهادات العلمية، وحين تسعى خلف مظاهر البذخ والترف وامتلاك آخر صيحات الموضة والتقنيات في قبول ورضا للاقتران برجل يملك المال ولا شيء سواه، فإنها تعيش عبودية ورقّاً أفظع ممّا عاشته أسلافها من الإماء والجواري ولكن بلبوس حضاري وربما غير مرئي للكثيرين.

ولا ينأى الأطفال بمختلف مراحلهم العمرية عن الاستعباد سواء للنظم التربوية الأسرية التقليدية التي تغتال شخصية الطفل وإنسانيته، بتقييده وعدم منحه الحرية الكافية للتعبير عن رؤاه لذاته وللآخرين، وكذلك استعباد تفكيره من خلال نظم ومناهج تعليمية صمّاء لا ترتقي بفكره ومواهبه بل تبقيه في حالة ببغاوية لكل ما يرده من علم ومعلومات، ما يجعله رقماً لا أكثر في أجندات الحكومات ووزاراتها المعنية حتى بعد الانتهاء من تعليمه الجامعي، إن تمكّن من الحصول على حق التعليم الذي يفتقده اليوم غالبية أطفالنا واليافعين لأنهم للأسف يسعون وراء لقمة عيشهم ومساعدة أسرهم التي شرّدتها الحرب ومطامع أثريائها الذين لم يرتووا بعد، حتى بات أطفالنا سلعة رائجة في أسواق الدعارة والمخدرات والتسوّل وغيرها من سلوكيات لا تتناسب ونقاءهم وأجسادهم الغضّة.. أليس في هذا ونحن في الألفية الثالثة عبودية ورقّ أبشع بكثير من عبودية تاريخية سالفة؟

أمام ما سردنا من وقائع وأحوال للدول والشعوب، وأمام ما يعيشه إنسان العصر الحديث من استلاب وتسليع وتماهٍ مفرط مع مُستغليه ومُستعبديه من نظم حاكمة ورأس مال متوحّش، هل يمكننا القول إن زمن العبودية والرق قد انتهى بتفعيل اتفاقية الأمم المتحدة عام 1951 أم ما زال الاستعباد قائماً بأشكال تبدو حضارية ومرغوبة؟ وهل من معنىً لإحياء هذا اليوم العالمي رغم أن الأمين العام للأمم المتحدة قد سلّط الضوء على تأثير أشكال الرقّ المُعاصر، مُشيراً إلى إعلان وبرنامج عمل ديربان التي اعتمدها المؤتمر الدولي لمكافحة العنصرية والتمييز العنصري حين قال:

(تُعرّف هذه الوثيقة التاريخية الرّق والممارسات الشبيهة به بأنها انتهاكات صارخة لحقوق الإنسان، ولا يُمكننا القبول بهذه الانتهاكات في القرن الحادي والعشرين.. إن الاحتجاجات العالمية ضدّ العنصرية المنهجية هذا العام أدّت إلى تجدّد الاهتمام بإرثٍ من المظالم في جميع أنحاء العالم، والتي تكمن جذورها في التاريخ المظلم للاستعمار والرقّ. لكن الرقّ ليس مسألة تاريخية وحسب).

فإلى متى سننتظر تحررنا من سطوة عبودية العولمة والاستبداد بمختلف تجلياته!؟

العدد 1102 - 03/4/2024